لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"الطريق إلى الله".. 90 دقيقة داخل سيارة "تكريم الموتى" – (صور)

08:41 م الخميس 13 يوليو 2017

كتبت- فايزة أحمد:

في طريق يصل بالشخص من عالم لآخر، يعرج عم يونس يمينًا ويسارًا، حتى يستقر أمام مقبرة يسكنها أحدهم، بينما يعود الرجل الثمانيني من مشواره وهو يُحدث نفسه عن ذلك المئال المنتظر.

رجل المخابرات الزاهد

عبر أزقة ملتوية وسلالم متهالكة، يقبع منزل عم "يونس عبد الحافظ" البالغ من العمر (80 عامًا)، بشارع "معروف" بوسط العاصمة، وأمامه عربة بسيطة تخصه؛ حيث عمل سائقًا لسيارة "تكريم الموتى" طيلة العشرين عامًا.

داخل منزلٍ متواضعٍ للغاية، يجلس "عبد الحافظ" على أحد الأسِرة البالية، ليتابع النشرات الإخبارية، أجبره عمله داخل جهاز "المخابرات العامة" على متابعتها، وذلك خلال حقبة الستينيات، حيث التحق به عقب انتهائه من أداء الخدمة العسكرية.

بعد خروجه على المعاش المبكر، بدأ فصلُا جديدًا من مسيرته في هذه الحياة التي لم يكن يعلم منها سوى منزله وأسرته المكونة من أربع فتيات وولد وحيد.

"خلصت الشغل في المخابرات وبعدين اشتغلت سواق في شركة".. كان لعمله داخل إحدى الشركات أن يجبره على أن يعمل سائقًا لسيارة لا تسر الناظرين أبدًا إذا ما تطلعوا إليها؛ لكونها تذكرهم بالحقيقة التي لا مفر منها "هي كدا دايمًا الحقيقة بتوجع البني آدم".

في إحدى الليالي؛ قاد القدر "عبد الحافظ" ليرى الموت بعينيه "كنت راجع متأخر بعد ما خلصت شغل ومعايا موظف معرفة من الشركة.. فجأة تعب وروحنا به المستشفى.. قالوا عنده برد وأدوله أدوية، واحنا راجعين وبنتكلم فقد النطق ومات"، كان لهذا الموقف أن يترك أثرًا بالغًا في نفسه؛ نظرًا لعدم قدرته على التصرف حيال ذلك "مابقتش عارف أروح به فين ولا أتصرف إزاي.. موت الفجأة حاجة صعبة قوي".

لم تزد هذه الواقعة "عبد الحافظ"، سوى إصرارًا على الزُهد في باقي أيامه، التي قلما وجد فيها راحة "علشان كدا قررت أعمل حاجة فيها خير.. ومفيش خير أكتر من أنك تساعد واحد يروح لربه بشكل كويس"، لذلك كان القرار "هشتغل ببلاش على عربية تكريم الموتى".

لسائق السيارة شروطًا محددة لا تنطبق على الكثيرين؛ ولكنها انطبقت على الرجل الذي علّمه عمله داخل المخابرات "الانضباط" تلك الصفة التي كانت السبب الرئيس في اختياره من قِبل الجمعية "أنت بتوصل ميت لربنا لازم تتحكم في نفسك في مواقف صعبة".

على مدار عشرين عامًا؛ كان "عبد الحافظ" دومًا ما يتعمد أن يسترق النظر إلى المتوفي وهو نائم على فراشِه داخل السيارة "كل مرة بشوف الميت وهو في الصاحرة بتخيل نفسي مكانه وأقول في يوم هنام في المكان دا".

لم يكن لدى الرجل الذي بلغ الكبر ما يورثه لأبنائه وذويه سوى عمل الخير، ذلك الذي يعتبره "كنزًا" ورّثه لابن شقيقته ويدعى "ممدوح رمضان" الذي يبلُغ من العمر (55 عامًا): "كبرت ومكنش عندي فلوس ولا أطيان أديها لأولادي وأولاد أختي.. قولت مفيش أحسن من أنك تزرع الخير فيهم".

لم يُكمل "رمضان" تعليمه ولا لديه ميولًا صوفية على الإطلاق، ولكنه قنع بما تسلمه من تركة خاله في قيادة السيارة التي لا تعرف سوى طريق واحد " كل يوم بطلع بالعربية بهيأ نفسي أني رايح لربنا أوصله أمانة لحد ما ييجي عليا الدور".

كل ليلة لا بد وأن يمر "رمضان" للاطمئنان على السيارة "مش بلاقي الراحة غير وأنا قاعد فيها.. لا عمري خوفت منها ولا كرهتها".

في سيارة المصير

باب سيارة "المصير الوحيد" التي تتخفي بداخلها رائحة الموت في كل ركن وكل زاوية، يقبع لحد الميت "الصاحرة" الخشبي الذي بداخله فراشًا كاملًا ليغفو عليه غفوة لا صحوة منها أبدًا.

أمام هذا اللحد الذي تقشعر له الأبدان، مقعدين لذوي المتوفي الذين يحرصون على مرافقته "بس طبعًا بيقعد أكتر من واحد، وأنت ما تقدرش تمنع حد نفسه بس يكون جانب قريبه ولو كام دقيقة في الدنيا".

في المقعد الأمامي بجانب السائق، حيث رائحة المسك والآيات القرآنية الورقية التي تضع في واجهة السيارة، انطلق في في الطريق الذي بات يعرفه جيدًا؛ مثلما يعرف طريق منزله حيث مقابر "البساتين".

على سرعة هادئة سار "رمضان" إلى وجهته "أنا متعود أمشي براحة علشان أنا معايا ميت ومش معقول هنبهدله في آخر كام ساعة له.. وأهله مش بيكونوا ناقصين سرعة وحد يخبط فيك ولا تاخد مخالفة".

الكل يبكي فقيده

لا يفد سائق هذه السيارة زهدًا ولا ورعًا في كبح جماح مشاعره إزاء المواقف الإنسانية الصعبة التي يصطدم به في كل مرة من أهل المتوفي لاسيما السيدات، اللاتي ينتظرن، فما أن يصلوا حتى يستقبلن ذويهن بصرخات شديدة تفعل به هو الأفاعيل "شعري بيقف وجسمي بيتخشب لما بتعرض للموقف ده".

برغم تكرار المواقف المشابهة من أهل المتوفي، إلاّ أن لصرخاتهم ولعويلهم الأثر نفسه عليه في كل مرة، منذ أن تصعد الجثة إلى سيارته إلى أن تنزل مُنزلها الأخير، لكنه يتماسك للغاية حتى لا تنهمر دموعه أمام الجموع "بقعد أقول لنفسي أنا راجل وما ينفعش أعيط".

الكل يبكي فقيده أو ما سيفقده، إلا أن هذا الصراخ أو ذاك العويل لم يكن السبب الرئيسي في تأثره، إذ إنه دائمًا "بتخيل نفسي وأنا مودع الدنيا بكل ما فيها وسايب كل حاجه وماشي رايح أتحط متر في متر".

إكرام الميت دفنه 

كان لشجاعة وشهامة "رمضان" أن تجعله يُحمّل نفسه مسئوليات جِسام إزاء أموات لا ضمان لهم في الحياة، فعدم معرفته للقراءة والكتابة لم تمنعه من أن يوقع جميع الأوراق الخاصة بأحد المتوفين الذي ظل في مطار القاهرة لمدة يومين، حيث تعطلت الإجراءات لعدم وجود ضامن سوى نجله الذي كان يبلغ من العمر (15 عامًا) "وقتها دخلت على وكيل النيابة وقولتله حرام نعذب الميت كدا.. دا إكرام الميت دفنه.. أنا هوقع الورق أنا وهتحمل المسئولية.. ولكن شرط أن يتأكد الطفل من الجثة".

أجبره هذا التصرف النبيل أن يقضي أصعب ليلة في حياته مثلما يصفها "الجثة كانت متحللة تمامًا.. ولما فتحوا الصندوق عليها علشان يتأكدوا منها الريحة بقت لا تطاق"، وبرغم عدم تحمل ذوي الميت رائحته أصر "رمضان" على أن يسافر بها إلى إحدى محافظات الصعيد وهو يقود السيارة متحملًا هذه الرائحة طوال الطريق.

لدى "رمضان" ذكريات سيئة أيضًا في هذه السيارة، فخلال إحدى المرات رفع أحد ذوي المتوفي السلاح الناري عليه؛ لتبديل المسجد الذي كان من المفترض أن يستقبل الميت فيه للصلاة عليه، إلاّ أن خبرته في هذا العمل جعلته يتصرف بحكمة شديدة "واحد أخوه ميت أتوقع منه أي حاجه، وبرغم أني بعمل خير مباخدش عليه مقابل من البشر لكن تفهمت حالته ما ردتش عليه".

مش حانوتي

أكثر ما يصيب الرجل الخمسيني بغضب شديد نظرة الكثيرين إليه كما لو كان "حانوتيًا" يهابه ويخشاه الجميع؛ لطالما ذكرهم بالنهاية الحتمية لهم "الناس بتبصلك نظرات غريبة كأنك جاي تقبض روحهم"، وبرغم ذلك لا يتردد إذا دعاه أهل المتوفي للنزول مع ابنهم إلى قبره ليضع عليه الثري مودعًا إياه الوداع الأخير "بحس أن دي مساعدة للميت.. أنت بتستره في لحظاته الأخيرة".

لا يخشى سائق سيارة المصير الحتمي استكمال ما تبقي من حياته بالقرب من ساكني المقابر الذين باتوا في طي النسيان لدى الجميع سوى بارئهم "هخاف من إيه .. الأموات أكتر ناس نطمن لهم ونأنس بالقرب منهم".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان