لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

29 عامًا على فرقة "الطنبورة".. في مقهى النجمة "شفنا القمر"

07:27 م الإثنين 13 نوفمبر 2017

بورسعيد - رنا الجميعي ودعاء الفولي:
تصوير - محمود بكار:

لافتة مُضيئة تكسر ظلام الشارع المحاذي للبحر، كُتب عليها "مقهى النجمة". ما إن يأتي يوم الأربعاء من كل أسبوع، حتى يتغير الحال في المكان، يتوافد أهالي بورسعيد والمدن المجاورة. الأعمار مختلفة والآذان صاغية، أما الأجساد فتتمايل رويدًا مع أداء فرقة "الطنبورة". في ذلك المكان الصغير يفرد "الانبساط" أجنحته على الحضور، يهدهد أوقاتهم فينعمون بساعات من "الحظ"، يقص عليهم حكايات مدن القناة؛ بين التهجير، الحرب، وسفر الأحباب. في المقهى، يلتقي الجمهور وأعضاء الفرقة أو "الصحبجية" كما يسمون أنفسهم، لينالوا قدرًا من الطمأنينة؛ فتراثهم الشعبي والصوفي مازال حيًا، محفوظًا في الصدور، جاريًا على الألسن.

15 فردًا وقفوا على مسرح المقهى، الأربعاء الماضي، يعزفون أغنيتهم "شفت القمر" برفقة فريق ألماني، بعدما تدربوا عليها معًا، في إطار مهرجان "ونس" الدولي لموسيقى التراث، الذي استمر من الخميس حتى السبت.

1

كانت أصوات البروفة تعلو فيما جلس الريس زكريا إبراهيم مُتذكرًا كيف أنشأ فرقة الطنبورة التي جابت أربع قارات، وتحتفل في الثامن من ديسمبر القادم بإتمام عامها التاسع والعشرين.

طوال حياته لم يملك الريس زكريا غير حُب السمسمية، حتى حين هُجّر برفقة أسرته وبورسعيد كلها سنة 1969، وعاش بمحافظة الدقهلية "وقتها كان الإسماعلاوية والسوايسة سبقونا، هما اتهجروا سنة النكسة، ولما وصلت كانوا عملوا فرقة سمسمية فعلا". انضم لها وبسببها اضطر لدراسة الثانوية العامة مرة أخرى "أنا في الأساس راقص، كنت مراهق عنده 17 سنة وماليش غيّة غيرها".

يعي مؤسس الطنبورة أهمية السمسمية، يعلم كيف عبّرت خلال أعوام التهجير عن آلام أهالي القناة، يتذكر أغاني مثل "يا مسافر بورسعيد" المُؤلّفة "وقت التهجير"، وأدوار أخرى تُراثية تُسلّيهم أثناء البُعد "السمسمية في الوقت ده كانت هي لسان حالهم، بتشجعهم وقت المقاومة وتعيد الربط بين الناس".

بعد الانتهاء من الثانوية العامة، سافر الريس زكريا للقاهرة للدراسة بمعهد التعاون الزراعي، ابتعد عن السمسمية التي تحتاج فرقة لإحيائها "وأنا كنت لوحدي هناك"، خلت أعوام الدراسة منها وحل مكانها الحراك الطلابي في السبعينيات، دخل مؤسس الفرقة معترك السياسة، ولم يتركه إلا في الثمانينيات؛ تلك السنوات التي أصقلت روحه وفكره، وبنى خلالها علاقات مع مثقفين كُثر، مكّنته من تأسيس الطنبورة في ديسمبر 1988.


امتلك الريس زكريا حسا موسيقيا، جعله يشعر أن السمسمية وحدُها أشبه بـ"العسل الكتير، اللي محتاج شوية طحينة عليها"، لذا بحث عن آلة صوتها غليظ يُهدّئ من وقعها "حسيت إن الطنبورة مناسبة، وهي آلة مستخدمة في الزار السوداني". استقر لعام بين مُريدي الزار يتعرف عليهم، ويُصبح مألوفا لديهم "عشان أقدر اشتري الآلة منهم".


حينما عاد مدير الفرقة إلى بورسعيد، عُيّن كمفتش للتموين، لكن ايقاع السمسمية ظلّ يرن بأذنه دومًا، وهو ما جعله يمزج بينها والطنبورة "الأقرب لروح الصوفية"، إلا أنه وسط ذلك بحث عن مُحبي ذلك الفن أو "الصحبجية"، حتى تعرّف على مُحمد الشناوي "كان عارف كل عازفين السمسمية اللي سابوا المجال ده بسبب النقوط اللي خلّى الناس تقاطعنا واحنا على المسرح"، بحث زكريا عن هؤلاء، آملا إعادتهم للشارع مرة أخرى بعيدا عن تحكم الجمهور.

2

نهاية السبعينات أجبرت محبي السمسمية على الابتعاد عنها "بقى الموضوع سبوبة"، حسبما يحكي الريس زكريا، وفي تلك الأثناء قرر محسن عشري، عازف السمسمية في الفرقة اعتزال العمل أيضًا.

حين وعى عشري على الدنيا، وجد والده حسن عشري أفضل عازف سمسمية في مصر؛ لذا سار على دربه "بقيت أسمع الأغاني اللي بيقولها وأحفظ لحد ما بقى ياخدني معاه الحفلات". صارت الآلة أكثر ما يُحبه عشري في الحياة، حتى أنه بدأ منذ عام 1977 في عمل شرائط الكاسيت رفقة والده، فيما لا يُجاوز عمره الرابعة عشر عامًا.

كانت أوقات عشري مُقسمة بين حفلات السمسمية والعمل كموظف بإحدى الشركات، قبل أن تُزعجه الاستهانة بالفن في حقبة الانفتاح الاقتصادي "كان عندي وقتها 26 سنة"، ودّ لو يوقف فقرة التحية التي اخترعها الناس خلال الحفلات "كانوا بيقطعوا الغنا ويمسكوا الميكروفون يحيوا فلان وفاكرين إنهم اشترونا بالفلوس"، ولما تيقن استحالة ذلك اعتذر عن العمل.

في أحد أيام التسعينيات وبينما تعزف فرقة الطنبورة في مقهى النجمة "أبويا حضر لهم حفلة"؛ تهللت أسارير الأب "جه قاللي أنا لقيت لك فرقة زي ما انت عايز معندهمش نقوط"، خاف الشاب من العودة "قلت له أنا مبطل من زمان وإيدي تقلت"، لكن إصرار الوالد دفعه للتجربة "واكتشفت إنه كان عنده حق".


نادي المسرح الموجود بشارع ممفيس في بورسعيد، شهد أول حفل لفرقة الطنبورة نهاية 1989 "قعدنا تلت ساعة، كان معايا وقتها الشيخ رجب والريس إمبابي والريس أحمد مجاهد.. كلهم دلوقتي الله يرحمهم".. يحكي الريس زكريا.


كان السؤال الملح في عقل المؤسس دائمًا عن كيفية تمويل الفرقة "اتجوزت في بيت العيلة سنة 81، وأنا مفتش تموين ومراتي موظفة في التربية والتعليم، كان لينا أولوية إننا نستلم شقة وندفع مبلغ مش كبير"، باع الريس زكريا الشقة بعد 28 يوما من شراءها، وبالثمن أنشأ ورشة لتصليح الأحذية وحقائب المدارس "دا سمح لي أقبّض الناس، وأقوم بأعباء الفرقة من بروفات وأماكن كنا بنروحها ونتطرد منها بعد شوية".


حارب أصحاف فكرة النقوط أعضاء الفرقة في بدايتها "كانوا بيكسّروا في مقاديف أعضاء الفرقة، فيقولولهم عليا دا بيضحك عليكم، دا أبوه مكنش صحبجي"، لكن أكثر ما آذاهم هي جملة "إنتوا فرقة عواجيز"، وربما ذلك ما جعل الرقص و"التنطيط" حاضرًا في كل حفلاتهم، وكأن لسان حالهم أن "الشباب شباب الروح"، كذلك عانوا من أصحاب الأماكن التي تجمعوا فيها "كنا بنروح بجلاليب، فنتطرد من مكان ويتقالنا اتمشوا"، فيما حاول آخرون الحلول مكان الريس زكريا كمدير للفرقة "بس كل ده انتهى لما استقرينا في بور فؤاد سنة 94". 

3

أقامت الفرقة حتى ذلك الحين عددا من الحفلات منها في وكالة الغوري، إلا أن نقطة التحوّل كانت في باريس عام 1996 "كنت عارف فرقة الورشة المسرحية اللي عرفوني بمحمد المطالسي من معهد العالم العربي في باريس"، بعدها طافت الفرقة بلدان كثيرة؛ النرويج، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، اليونان، وكندا ولبنان وأبو ظبي، استقبلها الجميع على اختلاف ثقافاتهم بمحبّة واستمتاع.

ذلك الإيمان بدور الطنبورة، هو ما يجعل حفل الأربعاء المجاني في مقهى النجمة "مفروغ منه". هو المكان الذي ترتاح فيه أنفس "الصحبجية "رغم رؤية بلاد أخرى، هناك يصبح الجميع أصدقاء، لا فرق بين مغني ومستمع. عهد "السلطنة" قائم دائمًا. "الحفلة هي هدية الضيوف اللي بيجولنا مخصوص كل أسبوع" حسبما يروي يحيى الجندي، المغني وعازف الإيقاع بالفرقة.

ما أن يتذكر الجندي مشهد "الضمة" حتى تفيض عيناه بالدموع؛ يحكي عن تلك الأيام حين كان في السابعة، جالسًا بين شيوخ بورسعيد المتحلقين في دائرة مهيبة، يُصفق بعضهم بالكفوف وتتهدج أصوات آخرون بأغنيات حفظوها منذ قديم الأذل، أعينهم مُغمضة، وقلوبهم تتراقص مع اللحن الحزين "هي دي الضمة.. بنسموها كدة عشان بتجمعنا كلنا، يحفظ منها الجندي-الذي يعمل سائقًا- المئات "من كتر عددهم مانيش فاكر". مازال صاحب الواحد وستين عامًا يحضره أسماء شيوخه القُدامى، الذين لقنوه الفن الصوفي.

4

أغاني الضمة "غامقة وصعبة وحزينة ومش أي حد يقدر يفهمها".. يقول الجندي بينما يرتعش صوته "ده أنا ساعات أغنيها على المسرح وألاقي نفسي ببكي، خاصة الدور بتاع نوح الحمام"، لذا حين تتغير ملامح الجمهور تفاعلًا مع الفرقة "بحس بالانتصار، بقول الواحد عمره مراحش على الفاضي".

يعرف الجندي جيدًا دوره "احنا بنحفظ الباقي من التراث، بنعمل ده من غير فلوس"، ولأن كل شخص فيهم هدفه "الاستمتاع بما يقدم"، فقد عزف الجندي عن الغناء مطلع الثمانينات حين صار الغناء مرهونًا بإرضاء أذواق الحضور "بقينا نشوف ناس توقف الاندماج عشان يحيوا فلان في الميكروفون.. كانت حاجة قليلة القيمة"، استمسك باعتكافه لأكثر من عشرين عامًا، حتى أقنعه صاحب الفرقة بالعودة.

بذل الريس زكريا مجهودًا ضخمًا حتى تمكنت الفرقة من "الوقوف على رجليها". أسس فرقته على مزج أغاني السمسمية والضمّة، بحث عنها في ذاكرة الفنانين القدامى "الشناوي الله يرحمه مثلا كان حافظ أغاني السمسمية لأنه متربي مع العتاولة، والريس امبابي كان ريس في الضمة وكان حافظ أغاني كتير منها".

كثيرون مروا على الفرقة، تركوا بصمة قبل أن يتوفاهم الموت "بس عشان احنا هدفنا نفضل موجودين فالقديم بيلقن الجديد وهكذا". حاليا تضم الفرقة خمسة شباب، بعدما كوّن الريس زكريا وعشري، عازف السمسمية، فريق براعم الطنبورة منذ حوالي عشرين عامًا، ليضمنوا استمرار الفكرة.

هناك توريث بالإجبار، وتوريث بالمحبّة؛ تربّى أحمد ابن محسن عشري على النوع الثاني، وانضم لبراعم الطنبورة في عمر الثانية عشر.

وقتها كانت الفرقة تُصوّر فيلمًا تسجيليًا "وكانوا عايزين يظهر في مشهد طفل بيعزف السمسمية"، خلال ثلاثة أيام تعلّم الشاب العزف على الآلة الوترية، ليظهر في الفيلم وكانت أكثر المشاهد العالقة في ذهنه "طلعنا أنا ووالدي وجدي بنعزف السمسمية كنوع من توارث الأجيال".

5

جمّعت براعم الطنبورة 15 صبيا، فيما ختم حب السمسمية على قلب عشري فكان العازف الشاب الوحيد في مصر "لما كان عندي 18 سنة"، والآن أسس فرقة الصحبة التي تضم أفراد متوسط أعمارهم 29 سنة، يُقدمون السمسمية بشكل عصري متسارع.

وقت أن كوّن زكريا الفرقة كان شابًا كذلك، عمره لا يُجاوز الخامسة والثلاثين "كان فيه ناس معانا 80 و70 سنة"، لكن العمل أعاد لهم الشباب، يصمت رئيس الفرقة قليلًا، تتجمع الدموع في عينه، قبل أن يتلفظ باسم "الشيخ رجب"، فقد كان أقرب الذين ماتوا إلى قلبه.

كان الشيخ الراحل شاعرًا "لكنه مكانش بيقرأ ولا يكتب.. يقول الشعر وينساه تاني يوم"، لذا ما أن تخرج الكلمات من فمه حتى يبدأ الريس زكريا بتدوينها ومحاولة الحفظ "كان عنده مصطلحات كدة محدش يفهمها غيري"، يبتسم ثغر مدير الفرقة ويضيف "زي الانشجاء.. كان بيقصد بيها الحالة اللي بين الشجن والانتشاء ودي قريبة للي بتعمله أغاني الضمة".

بالإضافة إلى غناء الطنبورة للتراث، يقوم الريس زكريا وعشري بتأليف وتلحين أغاني جديدة "عملت أغنية اسمها زي النهاردة من 50 سنة، بمناسبة تأميم قناة السويس"، كذلك لديهم "غنوة يا عازف الأوتار، بتحكي عن تاريخ الطنبورة"، فيما شاركا بكتابة بعض الأغاني لثورة يناير 2011.

لم يقتصر دور صاحب الفرقة على تأسيسها، بل ساهم في إحياء التراث الشعبي عامة؛ حينما قام بإنشاء مركز المصطبة بالقاهرة عام 2001، الذي يُدير حوالي 12 فرقة للتراث الشعبي.

8

في مقهى النجمة فقط، يستطيع الجمهور حضور بروفة فريقهم المفضل، ينتشون بـ"شفت القمر"، فتعلو صيحات الإعجاب، تخشع حركتهم مع "إيه العمل يا أحمد"، ويرددون مع العازفين "أه يالالي" أو"والنبي يا غزال". في المقهى تخبو مشاغل الحياة اليومية، وتنتعش البهجة. حتى أعضاء الفرقة الذي يعملون في وظائف أخرى، يخرجون من عباءة الروتين، كحال سعد موسى، عازف الإيقاع. ففي الصباح يعمل بإحدى شركات البترول ومساءً يُقابل أصدقائه على أحد المقاهي، أو يحيون الحفل الأسبوعي.

الرقص أمر آخر يفعله موسى، لا يبالي بجنسية الجالسين قبالته "المزيكا أوسع من أي لغة"، يُدلل على كلامه بوجوههم المُعجبة باللحن والأداء، حتى لو لم تصلهم الكلمات.

منذ بدأت "الطنبورة" وضع "الصحبجية" ميثاقًا لهم، تقول كلماته: "ولا تورينا إلا الوجوه السماحي، واجعل بيننا الحظ مستمر"، يرددونها فيما بينهم، إذ دائمًا ما حفظهم ذلك الوعد من تخريب حالة السلام في الفرقة، حتى أن المؤسس صار يبني عليه اختيار المنضمين الجدد "لازم أحس إن اللي هييجي معانا إنسان..عشان كدة لما حد بييجي يحاول يتشهر على حساب التانيين بيفشل وبيمشي".

يحفظ الريس زكريا بداخله المزيد من الأحلام للفرقة؛ يتمنى رؤية اهتمام أكبر بذلك الفن"اللي انا بعمله في الفرقة هو دور وزارة الثقافة".. مع ذلك لا ينتظر شيئًا سوى تذليل العقبات، وفتح المزيد من المسارح والأفاق لهم، فحتى أسعار الحفلات "البسيطة" ما عادت تناسب مجهودات العازفين. وفيما لا ينوي صاحب الطنبورة التوقف عن الطموح، يضحك الجندي، عازف الإيقاع، حين يسأله البعض بخبث "انت كبرت.. مش هتبطل غُنا؟"، فيقول "أنا لسة مطلعتش كل اللي عايز أقوله".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان