مصراوي في "نجريج".. حكاية 90 دقيقة تشجيع داخل قرية محمد صلاح (معايشة)
كتب-محمد مهدي:
تصوير- إسلام الشرنوبي:
بعيدًا عن القاهرة الصاخبة بنحو 125 كيلو متر، كانت الحركة هادئة في قرية نجريج-بمدينة طنطا- التي ينتمي إليها اللاعب محمد صلاح، حلّ الليل منذ ساعات، أُغلقت معظم المحال، برودة الجو دفعت الأهالي كعادتهم اليومية للبحث عن الدفء داخل منازلهم، غير أن عدد منهم انطلق إلى المقاهي لمشاهدة مباراة مصر ومالي في بطولة الأمم الأفريقية، وقلوبهم فَرحة لوجود ابن بلدتهم في التشكيل الأساسي.
قبل 60دقيقة من المباراة، تحرك "بسيوني زكي" مُدرس رياضيات، الذي تتلمذ على يديه "صلاح" في صغره، متجهًا إلى منزل "عبدالعزيز" خال اللاعب الكبير، إذ يجتمع لديه عدد من الأصدقاء لمشاهدة المباراة سويًا.
حول التلفاز الكبير الذي يجاوره علم مصر تحلق الأصدقاء في الغرفة المُخصصة لاستقبال الضيوف، برفقة أطفالهم.
يناولهم صاحب المنزل أكواب الشاي الدافي، وحبات من البرتقال، يُفصح كلا منهم لتوقعه لنتيجة المباراة "هنكسب اتنين صِفر" يقولها "غمري عبدالحميد" مُدرب "صلاح" في طفولته، قبل أن يصل العمدة إلى المكان.
يقول المهندس ماهر أنور-العمدة- إن القرية عن بكرة أبيها مهتمة بمشاهدة المباراة، سواء في منازلهم عبر شاشات التلفزيون أو البث المباشر على الإنترنت، أو في "الكافتيريات" المنتشرة بـ "نجريج" رغم صعوبة الجو، واعتياد الأهالي على النوم مبكرًا "الساعة تسعة هنا تُعتبر نُص الليل".
في الخارج، كان الضباب موحشًا، لكنه لم يمنع الناس من الخروج إلى الطرقات للحاق بالمباراة بمقهى "عامر" الذي يبعُد أمتار عن منزل مهاجم المنتخب المصري.
وجوه أربعينية وخمسينية وستينية تملأ المكان، يرتدي الجميع الملابس الثقيلة، فيما يمر صاحب المقهى على زبائنه بالمشروبات الساخنة. يُعلق أحد الحضور "المكسب من نصيبنا بإذن الله".
يقترب عدد من الشباب تجاه المقهى، لا توجد مقاعد شاغرة، فينطلقون تجاه كافتريا "ناجي" قطعة أرض بجوار ملعب صغير مغطاه بأسقف من الصاج، يتراص أمامها عدد كبير من الدراجات البخارية صينية الصنع.
بالداخل مئات من الصبية، عيونهم مشدوهة تجاة شاشة تلفاز وحيدة تنقل اللحظات الأولى للمباراة. ثم يظهر "صلاح".
صيحات التشجيع تعلو في المكان، ابتسامات موزعة على الوجوه، الأمل يكمن في هذا الشاب العشريني، يصرخ أحد الصبية "وريهم يا صلاح".
تبدأ المباراة، يتنقل "القهوجي" بين الصفوف متسائلًا عن طلباتهم، قبل أن تشتعل الأجواء بتمريرة ساحرة لابن قريتهم بـ "الكعب" إلى "أحمد فتحي" انتهت بهدف ضائع من "مروان محسن".
دقائق عديدة مرت في "جَس النَبض"، التركيز سيد الموقف، صراخ يُسمع من حين لآخر مع الهجمات غير المكتملة، في الدقيقة العاشرة يتقدم "النني" نحو مرمى الخصم، يتمهل قليلا قبل أن يُمررها لـ "تريزيجيه". ينفعل شاب عشريني "اخلص بقى وباصيهاله".
تنتقل الكرة إلى أقدام لاعبو "مالي"، يُسدد أحدهم-موسى ماريجا- الكرة من الجانب الأيسر، تكاد أن تهز شباك المنتخب في الدقيقة 12، لكن "الشناوي" يتصدى لها ببراعة. ينفعل أبناء القرية، القلق يخلع قلوبهم، يزداد الشعور نفسه حينما سقط حارس مرمى مصر على الأرض متأثرًا بإصابته "شكلها من نصيبك يا حضري" ذكرها أحد الشباب ضاحكًا.
توقفت المباراة، الحضري يُجري عمليات الإحماء، تصفيق فور ظهوره على الشاشة، يحظى اللاعب الأكبر سنًا في المنتخب على محبة أهالي "نجريج"، ينزل إلى أرض الملعب بدلًا من "الشناوي"، ثم يُستكمل اللعب.
الحماس مايزال حاضرًا، في الدقيقة 25 يُمرر "صلاح" الكرة إلى "النني" القادم من الخلف ليسددها بقوة أعلى مرمى "مالي" فتعلوا الصرخات "هانت هانت".
انفعالات مؤقتة متتابعة من الحضور تجاه تمريرة خاطئة من "عبدالله السعيد" في الدقيقة 30، وبعدها بـثلاثة دقائق لـ "النني" فور تسديدة بعيدة عن مرمى الخصم، ظهر على عدد من الشباب الضيق.
همهمات سرت في المكان، قال شاب لصديقه غاضبًا "كوبر بيلعب بطريقة دفاعية زيادة عن اللزوم" ليرد الآخر: "يا عم أحسن مش أحسن مايجي فينا جون".
البرودة تشتد، أكواب السَحلب والينسون تُمرر إلى الزبائن، الطلبات لا تتوقف، عامل بالمكان يُشير إلى كونها المرة الأولى التي تشهد فيه الكافتيريا هذا الكم من الحضور منذ بداية الشتاء، خاصة أن الوقت متأخر مُضيفًا: "اضطرينا نجيب كراسي من بره عشان نكفي الناس".
انتهى الشوط الأول بالتعادل السلبي، انفض الجمع من أمام التلفاز، نقاشات قصيرة دارت بين الشباب حول قوة المنتخب المصري، وإمكانية الفوز على "مالي"، بينما انطلق نفر منهم تجاه كافتيرا "تشيلسي" التي تقع في مدخل القرية، كعادة لجلب الحظ، فربما تتغير النتيجة للأفضل.
"تشيلسي" لا تختلف كثيرًا عن كافتيريا "ناجي"، لكنها محاطة بصوان من القماش، يُزين واجهتها صورة كبيرة لـ "صلاح". جمهورها يتصف بالهدوء، فالزبائن من الصبية والكبار. وتُعرف في القرية بكونها مِلكًا لأحد أقارب "صلاح"، كثيرًا ما يجلس بها عندما يحضر في الإجازات.
تغيرت وتيرة المباراة بالشوط الثاني من ناحية المنتخب المصري، تمريرات سريعة من اللاعبين وإقبال على مرمى الخصم، في الدقيقة 50 يحصلى "مروان" على كرة ثابتة بعد تدخل من مدافع "مالي"، يتقدم إليها "السعيد" يهتف الجمهور: "بتاعتك دي يا عبدالله هتجبها" لكنها تضيع.
في الدقيقة 53 يتحرك "تريزجيه" سريعًا في الجهة اليسرى، يُرسل عرضية مُتقنة لـ "مروان"، يقف أهالي "نجريج" مع وصول الكرة على رأس مهاجم مصر، يتحركون برؤسهم مع تصويبته التي يُخرجها حارس "مالي" بصعوبة قبل أن تحتضن الشباك "قربنا.. خير خير" عاد الحماس إلى الجمهور.
المباراة تمضي، الجمهور ينتظر هدف الفوز في أية لحظة، بين الحضور طالب في الثانوية العامة، يحمل رزمة من الورق المُحملة بالدروس، خرج قبل ساعة من منزله قاصدًا الكافيتريا لمشاهدة "الماتش" رغم امتناعه منذ فترة عن مشاهدة المباريات في الخارج "أنا في شبه معسكر بس دا المنتخب برده، مينفعش أفوت البطولة".
"تريزجيه" يُسدد بعيدًا عن مرمى "مالي" في الدقيقة 60، الملل يدبّ بين الصفوف من جديد، يسقط أحد لاعبي مالي دون سبب، يُعلق رجل خمسيني ساخرًا "هنبتدي لعب التوانسة بقى عشان تخرجوا بالنقطة".
الضباب يتزايد حول الكافتيريا، الوقت في "مالي" يضيع دون إحراز هدف الفوز. "صلاح" يحصل على الإنذار الأول في المباراة في الدقيقة 67، ثم يجري "كوبر" مدرب المنتخب تغييره الأول بنزول "رمضان صبحي" بدلًا من ابن "نجريج".
موجة من الاستياء بين الجالسين، يُعدد كلا منهم أسباب القرار "يمكن طلعه عشان الإنذار"، يقول شباب ثلاثيني عاشق لنجم مصر: "أكيد صلاح هو اللي طلب التغيير". لم يُعلق أحد على "رمضان".
هجمات خائبة من قِبل هجوم "مالي"، الكرة حائرة بين الفريقين، الفُرص لا تكتمل نتيجة للتمريرات الخاطئة، طفل في الكافتيريا يفرك يديه من البرودة، ينضم "أحمد حسن كوكا" إلى الملعب بديلًا لـ "مروان" في الدقيقة 75، الجمهور غير مهتم.
هدأت وتيرة المباراة، المتابعة صارت عبئًا على الجمهور، يذكر الأهالي ابن قريتهم كلما سدد أحد لاعبينا تصويبه تجاه الخصم "دي كانت عايزة صلاح".
يفيق الناس من هدوئهم في الدقيقة 84 عندما يتصدى "الحضري" لكرة خطيرة من هجوم مالي "الله عليك يا سَد"، الدقائق الأخيرة معبئة بالتوتر، الوجوه شاخصة، "القهوجي" يجمع ثمن المشروبات استعدادًا لغلق المكان فور انتهاء المباراة مباشرة، ضغط على المنتخب المصري، باقي من الزمن 3 دقائق وقت بدل ضائع.
انتهت المباراة، الحزن هنا في "تشيلسي" بنجريج، يكسو الملامح، يسري في القلوب، يجلس على المقاعد، يقف في صفوف الخارجين من الكافيتريا، النتيجة لا تعجب أحد، يستقل الشباب درجاتهم البخارية، آخريين انطلقوا من المكان في "توك توك" أو سيارات ملاكي، فيما يمضي رجلين معًا على الطريق الرئيسي وسط الضباب، اعتادا منذ زمن طويل على مشاهدة مباريات المنتخب سويًا، بقى الصمت بينهم لدقائق، قبل أن يقول أكبرهما "هنعوض الماتش الجاي.. هنعوض".
فيديو قد يعجبك: