ستة أشهر داخل "مركز الكفار".. ما فعله السجن بـ"طه"
كتبت- دعاء الفولي:
الثانية والنصف صباحًا.. يستعد عبد الرحمن طه للنوم. باب المنزل يُطرق بعنف. التفت الشاب حوله مرتجفًا. هرع صاعدًا للسطح. اختبأ من القادمين؛ لئلا يعيدوه للسجن. خيط التعذيب مر به ثانيةً؛ صعقة الكهرباء لجسده المبتل، صراخه إذ يركلون وجهه بأحذيتهم. سبابهم المتوالي. صوت مألوف يقطع حبل أفكاره السوداء. والدته تُخبره أن الطارق كان أخيه الأصغر. عاد الدم يسري بعروق الشاب، خالجته ابتسامة، واعتصر الإرهاق قلبه؛ عامٌ مرّ على إطلاق سراحه.. ولازال السجن يُعشش بروحه.
ما كان طه –اسم مستعار- شخصا حذرا، قبل التحاقه بـ"مركز الكفار"؛ ذاك اللقب المُعبر عن مركز الفلاحين بالفيوم "المحبوسين من كتر اللي بيحصل فيه مسميينه كدة". السجن قلب كيانه، صار أكثر انطواءً، يحسب حديثه باللفتة، يترك لنفسه مساحة للتفكير قبل أن يتكلم، كأنما الستة أشهر التي قضاها بالزنزانة قتلت حروف أبجديته.
إذا كان الزمن ينقسم لقبل الميلاد وبعد الميلاد؛ فحياة طه انقسمت إلى قبل الحبس وبعده. الأشياء صار لها معاني مُغايرة، كانت الصفعات التي يراها بالأفلام تبعث على الضحك، لكنه حين تلقى صفعته الأولى بالحجز في 8 أكتوبر 2014 لم يكن الأمر فكاهيًا؛ دارت به الدنيا. صار الحذاء كذلك سلاحًا فتاكًا، وقطعة من خرطوم مياه يُمكنها أن تلسع جسده الضعيف "اتضربت بيها يوم ما دخلت 50 ضربة على دماغي".
حين انتهت مُدة السجن ظلت المياه التي يشربها طه تُمثل له شيئًا مُفزعًا، كان إذ ينظر لذلك السائل الشفاف يذكر كيف أمست وسيلة لإذلاله داخل الزنانة "كنت أطلب من حد يديني ماية فيجيب كوباية ساقعة ويدلقها على ضهري.. ويسألني: طعمها حلو؟".
استقر في نفس طه عقب السجن، أن كونه مجندا لم يكن ليمنع عنه البطش، فحين تم القبض عليه كان في إجازة قصيرة من الجيش "وكان فاضلي سنة وأخلص التجنيد". اتهموه وقتها بتفجير كشك. خرج الشاب من المدرسة بالمرحلة الابتدائية، فأنّى له فك وتركيب قنبلة؟.. هكذا تساءل عقله. اعتقد أثناء التعذيب أن اعترافه بالخروج للتظاهرات سيخفف عنه الهول، كشّروا له عن أنيابهم حين قال: "كنت بعبر عن رأيي"، اقتادوه وألقوا عليه النبأ العظيم "هتاخد إعدام"، تخبط في طرقات طويلة مصطدمًا بأبواب لا تنتهي، ثم أدخلوه غرفة الهلاك.
من قال إن أثر الكهرباء يزول بزوال الصعق؟، عقل طه يستحضر ما حدث بتلك الغرفة كلما مرّ بكمين شرطة، لكنه يدّعي الثقة، يطلب منهم تفتيشه إن أرادوا، يبتغي الهرب، غير أنه يواجههم "المعاملة الصح معاهم إنك متبيّنش خوفك عشان ميستغلوش ده". يحكي عن الشرطة كأعداء، يُصبح صوته أقوى فيما يتحدث إليهم عن رخصة قيادة الدراجة النارية، لكنه لا ينظر في أعينهم أبدًا.
لا يعرف ابن محافظة الفيوم لأي من الوقت استمر الصعق "تقريبا ساعة ونص"، سألوه عن التنظيم التابع له، المظاهرات، الجيش. رفعوه عقب انتهاء الوقت، سحبوه فيما لم تُنزع الغمامة، صداع شديد ودوار حاد صاحباه لأكثر من شهر عقب تلك الليلة، شُفيت آثارها الجسدية، وبقيت النفسية؛ كرامته مازالت توجعه رغم الإفراج عنه منذ مايو 2015، كأنما خبأوها عنه بالسجن "هفضل فاكر اليوم ده كأنه امبارح". مع الوقت تحوّلت ذكريات الصعق لغضب أسود يربض منتظرًا.
طعم الأشياء يختلف عقب السجن، ليس للأسوأ دائمًا. كان مسموحًا لأم الشاب أن تُحضر طعامًا لمركز الفلاحين، يتقاسمه و9 آخرين "الأكل كان جميل جوّة"، بعد أن نال حريته لم يشعر بطعمه "رغم إنه نفس الأكل اللي أمي كان بتعمله بس تقريبا عشان الظلم ربنا بيهون على الواحد" يضحك طه رُغما عنه، قائلًا إن كونه سياسي أتى عليه بفائدة وحيدة "المساجين كانوا بيثقوا فيا وبيشيلوا حاجاتهم معايا"، خرج للمحكمة عدة مرات، كانت بمثابة فسحة "كنت لما بنزل بستغرب إن الشمس لسة بتطلع وفيه حياة وناس عايشة".
حين استطاع المحيطون تدبير كفالة الإفراج، جمع الشاب ذو الاثنين والعشرين عامًا حاجياته وخرج. سار بمفرده "مشيت أكتر من كيلو على رجلي"، مرتديا بنطال من الجينز وتي شيرت و"شبشب"، تلفت يمينًا ويسارًا، ليتأكد أن أحدهم لا يتبعه، تفحّص يديه متعجبًا "مفيش كلبش"، قادته قدماه إلى معرض السيراميك حيث يعمل، انهارت والدته في البكاء حين رأته، عاد لقرية "التلات" حيث يقطن، أصبح بمنزله بعد أشهر، اكتشف وقتها أن عادات السجن تتمسك بتلابيب نفسه.
السرير كان غريبا عليه، ليلته الأولى بالبيت قضاها على الأرض، ترجوه الأم أن ينام على فراشه فيقول "لسة شوية على ما اتعود"، ظل على تلك الحالة لثلاثة أشهر، وإلى الآن يوزع أيام نومه بين السرير والأرض.
يدعو الشاب بكل صلاة ألا يبيت في السجن ليلة واحدة. بأحد المرات اضطر للسير بدراجته النارية حوالي 10 كيلو متر كي يدور حول كمين مباحث رآه من بعيد، فيما اضطر بوقت آخر لترك صاحبه حين حاول عناصر الأمن إمساكهما "كنا بنلعب كورة وخلصنا ومروحين فوقفونا في الشارع وحاولوا يقبضوا علينا فركبت المكنة بتاعتي وجريت.. سبت صاحبي غصب عني عشان مياخدونيش"، لم يتجرد الشاب من جرأته المعهودة بشكل كامل، غير أن عبارة "من خاف سِلم" أصبحت دستوره الجديد.
اعتاد عبد الرحمن أن يعترض على من يحتفظون بنوايا عنيفة لرجال الشرطة، فيما يمتلئ قلبه بحقد الآن تجاه من عذبوه، يحارب شعور الانتقام طوال الوقت. لا يلتقي من أصدقائه إلا من مروا بتجربة السجن، فبينهم مساحات مشتركة "كلنا بقينا سوابق"، حين يجتمعون يسخرون من حالهم، يتندرون على صاحبهم الذي تم تعليقه من يديه داخل القسم بتلك الليلة المشؤومة، كلما أرادوا أن يعكروا مزاجه يقولون: "بس يا جدعان بقى عشان في واحد اتعلق هنا".
الخسائر كثيرة وفادحة. تمنّى طه بعد انتهاء التجنيد أن يسافر خارج البلد، ليعمل ويساعد عائلته، غير أنه الآن في عُرف القانون "هارب من التجنيد"، إذا سلّم نفسه سيُزج به في السجن لثلاث أعوام، وإذا أحضر لهم ما يُثبت أنه كان بالسجن خلال فترة هروبه "العقوبة هتتضاعف لأني ممسوك سياسي".
ضاقت الحياة على عبد الرحمن "أنا عايش في رعب". يحيا بين خيارين أبسطهما مُرّ، لذا سيبقى هاربا من ذنب لم يرتكبه على حد قوله "مش هقدر أخرج من البلد لحد ما يبقى عندي 31 سنة، كدة حلم السفر راح".
رغم ذلك فالسجن علّم الشاب الكثير، كان المساجين إذا أرادوا إخفاء أي غرض يُطلقون على العملية "أنبلة"، استطاعوا إدخال بطارية هاتف محمول بأحد المرات عن طريق لفها جيدًا، ووضعها داخل برتقالة كبيرة، فتحوا أعلاها، ثم أغلقوها مرة أخرى. ثمة مصطلحات يستخدمها الشاب إلى الآن، سمعها لأول مرة داخل الحبس "زي كلمة بِكِت" وهو الشخص الميسور الحال.
الكوابيس ليس لها مكان بعقل الشاب "لو فكرت أحلم بالسجن هخاف أحلم بيه أصلا"، أسرته تأثرت كذلك؛ والدته تتصل به يوميًا عدة مرات، تسأله بإلحاح أين هو، متى سيأتي؟.. من معه؟. والده يُهدده بضحك مختلط بتوجس: "لو اتأخرت هقفل باب البيت ومش هدخلك"، بينما تزيد عليه الأعباء المادية "زيارات أمي ليا بالأكل كانت مُكلفة جدًا غير فلوس الكفالة.. كل دي ديون عليا".
يعيش طه اليوم دون التفكير في غد، هيكل مجوف من أي أمل. فالعمل بأي مكان يستلزم شهادة التجنيد، والتنقل ليس متاحًا، خوفًا من ملاحقة أمنية قد تتجدد. أما الأثر الجسدي للتعذيب فذهب وذاك أكثر ما يغيظه "هما بيعرفوا يضربوا من غير ما يسيبوا أثر".
لا يثق طه بأي جهة حكومية "النيابة لما قولتلها إني اتضربت مصدقونيش وجددولي"، لا يندم أنه عبّر عن رأيه يومًا "لأن كدة كدة الدولة شايفة كل حاجة غلط"، لكنه لم يعد يؤمن بالتظاهرات، ولا بالحلول الوسط، أو التفاوض. لا يؤمن بديمقراطية قد تلوح أو حرية، ولا يسعى للحلم، إذ يعتقد أنه ما عاد موجودًا. باتت أقصى أمانيه ألا يُجبر مرة أخرى على العودة للبقاء فوق مقعد الكهرباء.
:تابع باقي موضوعات الملف
1- بعد الإفراج.. محمود يحيى: بقيت أعرف أبص للسما.. والسجن غير اللي بيجي ف التليفزيون
2- "صلاح" و"عبد الخالق".. توأم حمل السجن إلى الحياة
3- ياسين "سجين سياسي": اللي عاش عمره "سجن وضرب" صعب يتعود على الحياة الطبيعية
4- المجلس الدولي العربي لحقوق الإنسان: التطرف والجنون مصير السجناء بعد خروجهم (حوار)
5- "العرابي" بعد السجن.. مايزال حبيس عنبر "ج" في طرة
6- أحمد الدريني يكتب- الشيخ أحمد.. زنزانة العريس الراديكالي
7- مساجين برة الزنزانة.. الحياة "عنبر" كبير (ملف خاص)
فيديو قد يعجبك: