"رعاية مصابي الثورة".. مادة دستور 2014 لم تمر على "قرني"
كتب- إشراق أحمد وشروق غنيم:
أيام طوال تمر على محمد قرني، لم يعد يحصيها عددًا، يجلس بمنزله في ميدان الأربعين، هنا وضع أمله في تغيير لم يجده إلا في مكوثه الطويل على كرسيه المتحرك، بعد أن كان أحد "عفاريت الأسفلت" بين السويس والقاهرة، ومن أجله لم يعبأ برزق أو عائلة، فاندفع ثائرًا على أصحاب "الإتاوة" والإهمال، لكن بعد ثلاثة أيام من الحلم، تحول إلى كابوس، باختراق رصاصتين لجسده يوم 28 يناير 2011، حالت دون استكماله مشوار الثورة، ومشوار الحياة بشكلٍ طبيعي. يأتيه نبأ اعتزاز الدولة بمصابي الثورة، حتى أنها كفلت رعايتهم بالدستور، لكنه يشخص بصره إلى قدميه المتوقف علاجها فيرثي حاله.
أسباب عدة دفعت "قرني" للصراخ في ميادين الثورة، منها مُعاناة زوجته في رحلة علاج التليف الكبدي، فعلى مدار عامين سبقت "يناير" 2011، كان يطوف المستشفيات بحثًا عن طريقة لإجراء العملية لها على نفقة الدولة، لكن دون جدوى، "سنتين بشوفها بتموت قدام عيني ومش عارف أعمل حاجة"، إلى أن توفاها الله، قبل الثورة بعامٍ واحد.
"نزلت زي أي مواطن مصري تعبان في عيشته"، لم تكن حياة "قُرني" تسير بشكلٍ جيد، فصاحب الشهادة الإعدادية، كان يعمل سائقًا على سيارة ميكروباص في طريق "السويس-القاهرة"، كان يجني منها راتبًا يُكفيه، لكن "الحكومة كانت بتاخدهم مننا"، خلال عمله تعرض لمضايقات من "الكارتات وسحب الرخص".
لم يستطع "قُرني" أن يرى من أطلق عليه النيران خلال مشاركته بالثورة، مما يُجعله يعتقد بأن "قناصة من فوق الأسطح"، صوبت تجاهه رصاصتين، الأولى اخترقت ظهره، كسّرت أربع فقرات من العمود الفقري، وقطعت النخاع الشوكي، وهتكت المعدة، وفي طريقها للخروج، عرجت على الطُحال، أما الرصاصة الثانية فاخترقت صدره وخرجت من الظهر.
خمسة أعوام عُمر الثورة، ورحلة "قُرني" مع المستشفيات بحثًا عن العلاج؛ عقب الإصابة مباشرًة تم تحويله إلى مستشفى السويس العام، ثم مكث خمسة وعشرين يومًا في المستشفى الجامعي بالإسماعيلية، بعدها أجرى عملية تثبيت للفقرات بمستشفى حلمية الزيتون، ومنها إلى مستشفى العجوزة، وانتهت به الرحلة إلى مستشفى عين شمس التخصصي، ورغم أن المادة 16 من دستور 2014 تنص على التزام الدولة برعاية مصابين الثورة، إلا أن ذلك لم يغير شيئًا في حياة ابن السويس، حتى أنه ما عاد يعبأ لأي مما يحدث بالبلاد.
يبلغ عدد مصابي الثورة خلال الـ18 نحو 1588 وفقا لتصريح سابق لأمين عام المجلس القومي لرعاية أسر المصابين والشهداء، واسند إلى المجلس المنشأ عام 2011، مهمة توفير العلاج والتأهيل الطبي المناسب، الرعاية الاجتماعية والنفسية والصحية والمادية لأسر الشهداء ومصابي الثورة، وعمل مشروعات صغيرة لأسر الشهداء والمصابين، توفير سكن ملائم لمصابي العجز الكلى والجزئي في حال عدم توافر وحدات سكنية لهم، وفرص عمل للمصابين لإدماجهم في سوق العمل، غير أن ذلك كان بالنسبة لـ"قرني" مجرد "كلام".
كانت حالة "قُرني" تستدعى السفر إلى ألمانيا، وبعد ثلاثة أعوام من تدهور الإصابة، وانتشار التقرحات في جسده، قرر صندوق رعاية مصابي الثورة، العام الماضي، أن يُسافر "قُرني" إلى سويسرا، لتبدأ رحلة علاجه بمستشفى "جينوليه" بالقرب من جنيف، ليصبح أول مصاب للثورة يسافر للعلاج على نفقة الصندوق، لكن الأمور لم تسر على نحو جيد كما تمنى "كان نفسي اتعالج والبلد تتغير"، يقول ابن السويس.
لم يسمح الصندوق لـ"قُرني" باصطحاب مُرافق، وتواصله مع الصندوق اقتصر على التقاط صورة فوتوجرافية مع أحد المسئولين بصالة المطار، نُشرت على الصفحة الرسمية لـ"المجلس القومي لرعاية أسر الشهداء ومصابي الثورة"، ثم انقطعت سُبل التواصل، فوجد نفسه وحيدًا بسويسرا، دون مرافق. ثلاث ليال لا يتحدث مع أحد "كنت خايف حتى أكل"، حالت اللغة دون تمكنه من التواصل مع الأطباء، وفهمهم، وقضى الليالي نائمًا لأطول وقتٍ ممكن، إلى أن جاءته هبة ربانية، أنقذته من ذلك، "جميلة"، امرأة جزائرية، تربطها علاقة شخصية بمديرية المستشفى، مما دفع الأخيرة بطلب المساعدة منها في حالة "قُرني"، للتمكن من التواصل والحديث معه، وخلال الثلاثة أشهر التي قضاها "قُرني" في المستشفى كانت تذهب "جميلة" إليه يوميًا، ولم تقتصر على كونها مترجمة فقط، بل تكفلت بمصاريف احتياجاته.
تلقى "قرني" صدمته الأولى بعد أمل العلاج، فرغم وعود الصندوق باستكمال علاجه بالخارج، إلا أن الفيزا كانت لقضاء 11 يومًا فقط، "كدبوا عليا"، يتحسر الشاب الثلاثيني القعيد، متذكرًا حين أخبره المستشفى بجنيف بأن حالته تستدعي قضاء ستة أشهر للعلاج، حتى يتخلص من تقرحات الفراش التي شارفت على مرحلة "الغرغرينا"، "عملت مشكلة، وقولت مش هرجع مصر، لحد ما الصندوق بعت مصاريف المستشفى"، وخلال ثلاثة أشهر أرسل الصندوق الأموال إلى المستشفى ثم منعها، بحجة عدم توافر أموال، وهو الأمر الذي أجبره في النهاية على العودة إلى مصر، دون استكمال العلاج.
بعدما توقف علاج "قرني" بالمستشفى نتيجة عدم دفع المبالغ المادية، لجأ إلى السفارة المصرية، التي أخبرته أنها لا تعلم بوجوده في سويسرا، ولم يتواصل الصندوق معها، وذلك رغم مرور شهرين على وجوده بالبلد الأوروبي، لكن الوضع لم يتغير بعد معرفة السفارة بأمره، رتبت زيارة وحيدة له، ثم انقطعت عن ذلك تمامًا، حتى عاد "قُرني" إلى مصر مجددًا، نظرًا لعدم سداد تكاليف العلاج.
كان "قرني" قد قطع نصف المشوار العلاجي المقرر له 6 أشهر، "كنت بدأت اتحسن والجروح تلم"، لكن الشاب وجد نفسه وحيدًا مرة أخرى بمصر، لم يستقبله أحد، ليقبل مضطرًا بالدخول في دائرة مفرغة من عمليات جراحية بمستشفى عين شمس التخصصي بين الحين والآخر لعلاج التقرح الذي أصابه جراء المكوث دون حراك "كان عضم رجلي بدأ يبان من كتر التآكل".
استسلم "قرني" للأمر الواقع، وإن كانت تنازعه نفسه، بالتساؤل عن سبب توقف صندوق رعاية المصابين عن علاجه بالخارج، مقابل دفعه لتكاليف عمليات جراحية غير مجدية، ، غير أن الإجابة طالما تأتيه بأن "مفيش ميزانية". يتكالب عليه الألم؛ الجسد يئن، والنفس لا تجد معين لها بين العباد، فمقابل شكواه ومطالبته بالاهتمام بالمصابين، يصدمه رد "ما أنتوا بتاخدوا معاش".
لا ينكر ابن السويس مداومة حصوله على معاش جيد يبلغ 2800 جنيه، لكن كاهل الشاب رغم ذلك ظل محملا بالأعباء، فمن المبلغ يسدد نحو ألف جنيه شهريا تكاليف ايجار شقته ومرافقها العامة من كهرباء ومياه، فضلا عن مصاريف شقيقه الصغير، الذي حرص على تعليمه الجامعي، رغم أنه لا يحمل سوى الشهادة الإعدادية، ونفقة علاج والديه، فرغم إصابته وعجزه لكنه لا يستطيع التخلي عن أسرته "أنا اللي كنت بجري على أهلي".
شقة "على المحارة" بمنطقة المستقبل في السويس يحتاج لتهيئتها نحو 50 ألف جنيه، أعطتها المحافظة لمصابي الثورة حسب قول "قرني"، اضطر على مضض باستلامها تنازلا عن رغبة أهله، لكنه تفاجأ بضرورة دفع 10 آلاف جنيه لاستلامها، ودفع 200 جنيه إيجار شهري، قَبل مصاب الثورة بالشقة المغلق أبوابها حتى الآن. كما ارتضى العلاج الذي يصرفه له صندوق رعاية المصابين، والذي لا يكفيه سوى أسبوع، ويضطر لاستكماله على نفقته الخاصة، يتألم شهريا لسفر والدته إلى القاهرة لاستلام علاجه، إذ يلزم الحصول على خطاب من مقر المجلس ثم الصرف من الصيدلية المتعاقد معها.
"مبقتش أقول أني مصاب ثورة" بصوت يخنقه القهر، يعبر "قرني" عن الحالة التي تلازمه، فمقابل احتفاء الأهل والجيران به، إلا أن كلما ابتعد عن دائرته الصغيرة، غاص في بئر الندم لمشاركته بالثورة، يشعر أن أمله البسيط أن تتغير أحوال البلاد صار رفات منثور، فحاجته الملحة للسفر إلى ألمانيا واستكمال العلاج الذي انتكس بالعودة يقابله رد مسؤولين صندوق رعاية المصابين "أنت مش سافرت خلاص"، فيما لا تنتهي مواقف الشرطة معه، بإيقافه لمعرفة أنه مصاب ثورة.
يتذكر "قرني" قبل أشهر، أثناء عودته من المستشفى بالقاهرة، حين استوقف كمين أمني السيارة المستقل لها، بمنطقة 109 المعروفة بطريق السويس، وأخذ يسأله عن تفاصيل مجيئه، وما أن أفصح بحسن نية عن سبب مرضه حتى قال له الضابط "أنت فرحان أنك شاركت في الثورة" حسب قوله، ثم أصر على نزوله من السيارة، والانتظار حتى الكشف على سجله الجنائي، ولا يتوقف "التنغيص" على ابن السويس، حتى في محاولته للتفريج عن روحه، فقبل أيام أثناء وقوفه ليلا مع صديقين له تحت منزله، قام أمين شرطة بتفتيش من معه، وطالبه بالصعود لشقته.
مرت حكومات، توالت الأحداث، تغيرت الوجوه، غير أن حال "قرني" كما هو، حال أوضاع البلاد التي لم تتغير في نظره. يجلس على كرسيه المتحرك، يحاول إصلاحه قدر المستطاع، بعد أن بُح صوته "نفسي في كرسي" مطالبا مجلس رعاية مصابين الثورة بتوفيره، خاصة أنهم لم يتكلفوا نفقة الأول، لكن "محدش بيسأل"، يعز على نفسه استخدام ذلك المقعد الذي يحتاج مساعدة أحدهم لتحريكه. فقد ابن السويس الثقة في الجميع، سأم من المتاجرة بقضية المصابين ثم تجاهلها كأنهم لم يكونوا، ينظر لحاله ويحمد الله "في غيري كتير مرميين في البيت مش لاقيين العلاج"، لا يتمنى سوى المعافاة والقدرة على الوقوف على قدمه مرة أخرى ولو بعكاز.
فيديو قد يعجبك: