بالصور: هيكل.. رئيس جمهورية "الصحافة" (بروفايل)
كتب- أحمد الليثي:
دومًا ما تُضفي الأضواء بريقًا للقادم نحوها، تُعطي له رونقًا، تزيد عليه بهاءً، يلمع في حضرتها، غير أن شخصًا ما ظل عهودًا هو مصدر الأضواء، تتسارع للوصول إليه، بقي مصدر الحدث، لم يخفت نجمه يومًا، حتى وإن طالته يد الهدم، كان شامخًا، واراه التراب قبل ساعات، ولكنه رغم دخوله في العقد العاشر لم يبدو يومًا عجوزًا، فلم ينل شفقة أحدهم، ولم تُقذف خلفه عبارات الخرف أو التشكيك في قواه العقلية، وإنما مرت الأيام تتبعها السنوات مخلفة عقودًا، وهيكل هو الأستاذ "دوما".
نقل هيكل "الصحفي" -اللقب المقرب إلى قلبه، من شخص يتابع الحدث، إلى محوره. في الفلوجة بينما الصراعات دائرة، العرب يواجهون المستوطن الجديد في 1948، كانت إحدى الصور تشير إلى صحفي مقبل على إكمال عامه الخامس والعشرين، يقف على الجبهة إلى جواره قادة من دول عدة، مرتديًا زي الجند يُلقي النظر، بنظارته الشمسية يتابع الأمر عن كثب، وفي صورة أخرى يرافق البطل أحمد عبد العزيز قبل رحيله بأيام.
كان عبد الناصر ذو هيبة وصلت لنفوس الجميع، البسطاء من العامة، وكبار الساسة، الدراسات تتحدث عن طلته، أقواله، التفاف الشعب حوله، يتصدر صحف الغرب، الكل يشير إليه، بينما يشير هو إلى ذاك الشاب ذو العقل المتقد، والأفكار النيرة "هيكل".. في أول مؤتمر صحفي لقادة ثورة 23 يوليو، يلتف الجمع حول طاولة كبيرة، يتحدث ناصر والكل ينصت، فيما يقبع هو خلفه، كمحرك للمياه، لذا لم يكن مستغربًا أن يُدون كتاب «فلسفة الثورة» بيد هيكل وعلى لسان الرئيس جمال عبدالناصر.
داخل مبنى جريدة الأهرام، كان ناصر يزور رفيقه، يشير إلى مقعد هيكل، صديقه الذي كان يعرف قدره، علق الأستاذ على الواقعة فيما بعد: "كان الرؤساء يحبون الجلوس على مقاعد رؤساء التحرير".
وقتما كانت للمهنة قدرًا، اتخذ هيكل من الأهرام منبرًا، أعطى المساحة لكل مفكري مصر، قال لهم "الأهرام بيتكم"، لا يزال المبنى شامخًا جراء ما صنعته يد هيكل، تحوي جنبات المبنى صوره مع أم كلثوم وهو يراجع معها أحد المانشيتات، وأخرى لجلسة يتوسطها هو ويتراص حوله صلاح جاهين وعبد الحليم حافظ وأخرى برفقة إحسان عبد القدوس وجلال الدين الحمامصي ومبدعي الوطن.
وصور كثيرة عن تلك الأيام الخوالي له مع الأخوين "أمين" على الرصيف يتبادلون الحديث أمام الأخبار تارة، وقبل دقائق من النشر مرات، وفي ثالثة وهو يغط في نوم عميق إلى جواره مصطفى أمين يقرأ كتابه بنهم.. كان نجيب محفوظ يقول إن هيكل أستاذ الصحافة "ولو دخل دنيا الرواية لصار علما"، لكنه التزم بحبه الأبدي كقديس لا يفارق محرابه، واكتفى بسيل من الكتب أثرى بها المكتبة العربية.
تبناه سكوت واطسون الصحافي المعروف بجريدة "الإيجيبشان جازيت" وهو لم يصل العشرين من عمره،كانت بداية البزوغ مع تغطية أحداث الحرب العالمية الثانية، من العلمين ثبت أقدامه، ومع النجاح راح يتابع رحى الحرب في مالطا، ومنها إلى باريس، ثم لقاء محمد التابعي عقب العودة.. فتش عنه في كل الحقب ستجده، لم يتوارى في الخلفية بل تصدر المشهد، ولا يعرف سوى رفقة "الكبار".
في زيارة إلى موسكو –الحليف الأهم بعد يوليو- كان عبد الحكيم عامر يصطحب عبد المنعم رياض في رحلة عسكرية إلى بلاد القياصرة، وبينما تبدو نظراتهما متفحصة للمكان، يظهر هيكل في الصورة كأحد صانعي القرار في الدولة، ذلك الذي تولى وزارة الإعلام، وكذا الخارجية لمدة أسبوعين فقط، في غياب وزيرها الأصلي "محمود رياض".
حتى في أحلك الظروف كان "كبير العرب" يهرع إليه، يأخذ مشورته، فتكون أشهر الكلمات وأثقلها في تاريخ مصر "فأنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قرارا أريدكم جميعًا أن تساعدونني عليه.. لقد قررت أن اتنحى تمام ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر.. إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها وأريد أن أكون واضح أمامهم إنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر".. فتضج البلاد بالمظاهرات على وقع الحدث الجلل الذي خطته يد "هيكل".
كان هيكل يحاور الكبار، يتبادل الأدوار مع إينشتاين فيسلمه مقعد المحاور، يجيب عن أسئلته بشأن الصراع العربي الإسرائيلي. كان صديقا للرؤساء، يحتفي بعلاقته بنهرو، يظهر في نهاية الكادر الخاص بلقطة هامة لمؤتمر باندونج في عام 1955.
كان للصحفي مكانة وهامة لا يرضى أن يحنيها من يعرف قدرها؛ طلب أن يُجري حوارا مع "خروشوف" رئيس الاتحاد السوفيتي، جاءه الرد بأن يُرسل الأسئلة مكتوبة ويرد الرئيس لاحقًا، لكنه لم يكن يرضي بتلك اللقاءات من طرف واحد، فأصر على اللقاء وقد كان، وفي زيارة لاحقة لخروشوف في مصر، كان مقررًا أن تقتصر اللقاءات على شخص واحد "عبد الناصر"، قبل أن يقرر زيادة اسمًا ثانيًا، فكان لهيكل لقاء استمر ثلاثة أيام كاملة على متن باخرة كانت تجوب بالرئيس السوفيتي في ربوع مصر.
فى 1 أكتوبر 1973 كتب الأستاذ هيكل التوجيه الإستراتيجى الصادر من الرئيس السادات إلى القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية الفريق أول أحمد إسماعيل والذى تحددت به استراتيجية الحرب، بما فيها أهدافها، وترتب على هذا التوجيه تكليف مكتوب أيضاً لـ"إسماعيل" ببدء العمليات، وقعه الرئيس السادات يوم 5 أكتوبر، وكتب للرئيس خطابه أمام مجلس الشعب بتاريخ 16 أكتوبر، وفيه أعلن السادات خطته لما بعد المعارك.
"زيارة/ محمد حسنين هيكل+ زيارة وزير الدفاع الكوري" جزء من وثيقة يعود تاريخها إلى 15 نوفمبر 1973، تشير إلى الاحتفاء بدور "الأستاذ"، ويستقبله وزير الدفاع "أحمد إسماعيل" في مكتبه.
حتى في الخلافات كان "هيكل" كبيرًا، يعاند رئيس دولة منتصر، يرفض أن يطأطأ أمام عنفوان السادات، يبدأ باسمه أسماء معتقلي سبتمبر 1981، يحاول رأس الدولة أن ينحيه جانبًا ولو بمنصب شرفي كمستشار للرئاسة، فيأبى هيكل إلا أن يكون "الأول": "إننى استعملت حقى فى التعبير عن رأيى، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته. وسلطة الرئيس قد تخول له أن يقول لى اترك الأهرام. ولكن هذه السلطة لا تخول له أن يحدد أين أذهب بعد ذلك. القرار الأول يملكه وحده.. والقرار الثانى أملكه وحدى".
فيديو قد يعجبك: