في يومهم العالمي.. "نبيل" في مرمى إعاقة الدولة
كتب- محمد زكريا:
كأي طفل في عمره، كانت الحياة بسيطة في عين أحمد نبيل. شاب صغير يحلم ببلوغ مرحلة الثانوية العامة، للالتحاق بالتعليم الجامعي ومنه إلى الحياة العملية، غير أن إصابته بمرض سرطان العظام، دفعه إلى بتر قدمه اليسرى بعد سلسلة من التشخيص الخاطئ. بعد أن تخطى عُمره 16 عامًا، كان عليه التأقلم جسديًا ونفسيًا مع طرف صناعي.
على مدار 10 سنوات ظل صاحب الـ26 عامًا يعاني أثار عجزه، بداية من البحث عن وظيفة تتناسب مع إعاقته الجسدية، مرورًا بالتعامل مع إجراءات الدولة الروتينية على مستوى قطاعاتها، وليس انتهاءً بالظروف المعيشية الصعبة التي يحياها ابن حي فيصل بمحافظة الجيزة حال كل شباب جيله. مع حلول اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة لا يزال "نبيل" يعتقد أنه في عداد المنسيين.
منذ العام 1992، خُصص يوم الثالث من ديسمبر من كل عام، لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة. ووفقًا لإحصاءت رسمية تعود لنفس اليوم من العام الماضي، بلغ عدد ذوي الإعاقة في مصر بين 3 إلى 4 ملايين معاق، بينما قدرتهم منظمة الصحة العالمية بنحو 12 مليون معاق. ويهدف اليوم إلى زيادة الفهم بقضايا الإعاقة، ودعم التصاميم الصديقة للجميع من أجل ضمان حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، حسب منظمة الأمم المتحدة.
بعد أشهر قليلة من إقرار الدستور المُستفتى عليه في يناير من العام 2014، والتي تنص مادته رقم (81) على أن تلتزم الدولة بتوفير فرص عمل للأشخاص من ذوي الإعاقة مع تخصيص نسبة منها لهم. كان موعد "نبيل" مع البحث عن عمل، يتناسب مع شهادته الثانوية، ويتلائم مع ظروف دراسته الجامعية، ويغلبه على إعاقة قدمه قبل أحواله المادية.
يومها توجه الشاب العشريني. مفحمًا بالأمل. قابضًا بيديه على شهادة التأهيل التي تخصه، والتي تُتبت فيها حالة كل معاق بالتحديد، وأي الوظائف التي تتناسب مع إعاقته. صوب المكتب المختص بخدمات ذوي الاحتياجات الخاصة بوزارة القوى العاملة. بعدها قدم الأوراق المطلوبة بنية الاتحاق بعمل يتناسب مع حالته الجسدية إلى أحد موظفيه، الذي ردهم له في الحال، مبررًا ذلك بعدم توافر أي فرصة عمل متاحة.
احتد الحديث بين ابن حي فيصل وعدد من موظفي المكتب الحكومي "قولتلهم إزاي مفيش شغل، أنا أعرف ناس قدمت وأتعينت"، فنهره أحدهم "قولنالك مرة مفيش"، رد "نبيل" في تحدي "أنا عرفت إنهم فاتحين وظايف في مصلحة الضرايب"، زادت موظفة أخرى بصوت أعلى "إحنا فينا اللي مكفينا، ملناش دعوة، لازم تجيب ورقة منهم إنهم عايزين"، هو ما دفع الشاب العشريني إلى طرح مزيد من التساؤلات "المفروض يعني المصلحة هي اللي بتجيب الورقة عشان أشتغل؟ أمال وزارة القوى العاملة أيه لازمتها؟"، مما أثار غضب الموظفين الذين زادوا من حدة كلماتهم تجاهه، بعدها غلبت الدموع الساخنة تماسك الشاب العشريني، قبل أن ينفجر في نوبة بكاء شديدة "أتكسر نفسي.. أنا مش رايح أشحت، أنا قريت القانون ونزلت أطبقه".
بعد أن فشل العاملين بالمكتب المُخصص لخدمة المعاقين في تهدئته، تواصلوا مع رئيسهم الأعلى في محاولة للسيطرة على الأزمة. بعدها طلب الموظف الأكبر مقابلته "هداني وإداني بسكوت". وأثناء قيام "نبيل" بعرض مظلوميته على الموظف بداخل مكتبه الخاص، قطع حديثهم دلوف أمرآة من بوابة المكتب المغلقة، لم يتعرف الشاب العشريني على طبيعة عملها من الوهلة الأولى.
في البداية أجرت السيدة سيل من المكالمات التليفونية بداخل المكتب. بعدها وجهت حديثها للشاب العشريني "بتعيط ليه"، فجاء رده ساردًا للأحداث التي واجهها منذ أن دخل بوابة الوزارة، فيما ساوره الشك عن طبيعة وظيفة محدثته. بعد أن غادرت السيدة مكتب الموظف الكبير، تم منح "نبيل" ورقة مزيلة بشعار الدولة، غير أن متناها أثار الالتباس داخل عقل صاحب الـ26 عامًا "مكتوب في الورقة أن الكلام على مسؤوليتي الشخصية، وأن الوزارة مش مسؤولة تمامًا عن كلامي بوجود وظائف متاحة".
بعد أن وطأت قدميه خارج أبواب الوزارة، استخدم محرك البحث على شبكة "الإنترنت"؛ للتعرف على ماهية السيدة التي بادلته الحديث، فيما أذهلته المفاجأة بعد أن تأكد من كونها ناهد العشري وزيرة القوى العاملة في وقتها، حسب رواية "نبيل"، مما أدخل الطمأنينة إلى قلبه المرتجف "قولت الوزيرة يبقى أكيد هشتغل".
فرحة تلمست قلب الشاب العشريني، أمال دارت بعقله الصغير، أحكم قبضته على الورقة الممهورة بـ"ختم النسر"، توجه على الفور إلى مصلحة الضرائب، وبعد أن جال عدد من مكاتب موظفيها، جائه الرد صادمًا "مفيش أمر في الورقة دي بالتعيين"، بعدها حاول "نبيل" تفهم الأمر، فوصل إلى ما مفاداه أن "الورقة دي ملهاش أي لزمة"، بعدها قرر الشاب العشريني العودة إلى بيته، فيما كانت تملؤه حسرة كبيرة، بعد ضياع فرصة جديدة للعمل.
بعدها كان موعده مع التأمين الصحي، في إحدى حملات التطعيم التي يجريها المرفق الحكومي موسميًا "بيبقوا عايزين عمالة زيادة تشتغل 3 أيام بس، وبناخد فيهم 100 جنيه"، وقتها كان لا يزال "نبيل" متعطلًا عن العمل فقرر المشاركة. وبعد الشهر المقرر لتحصيل المبلغ المُستحق، دار بينه وأحد موظفي التأمينات حديثًا قصيرًا "سألني ليه مش شغال لحد دلوقتي"، فأجابه "نبيل" بحكايته داخل وزارة القوى العاملة، فجاء رد الموظف قاطعًا "أنا عشان أشتغل في التطعيمات، روحت القوى العاملة، رشيت على نفسي جاز وقولتلهم هولع في نفسي.. راحوا مشغلني"، فيما تمتم الشاب الصغير بكلمات غير مفهومة.
البحث عن وظيفة لم تكن المعاناة الوحيدة للشاب المعاق، بل طالت الأزمات كل ما يتعلق بالإجراءات الحكومية التي أتبعها لإنجاز مهامه. إحداها قبل 6 سنوات، عندما عزم على ترخيص سيارته المُدعمة للأفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقتها توجه إلى وحدة مرور فيصل التابع له بمحافظة الجيزة، غير أن "شباك ذوي الاحتياجات الخاصة مش شغال، ولا عمري قضيت مصلحة من عليه"، مما دفع "نبيل" الوقوف في طابور طويل للحصول على رخصة سيارته في النهاية، رغم ما يعترض قدمه من آلام؛ بفعل الوقوف مدة طويلة.
في إحدى الليالي، كان نبيل يلف بسيارته شوارع الجيزة، أوقتفه أحد الكمائن الشرطية، طُلب منه إخراج رخصته الشخصية وسيارته "المعاق، رخصة العربية هي نفس رخصته الشخصية"، وبعد أن قام أفراد الشرطة بتفتيش السيارة بالكامل، تعمد أحد الضباط توجيه ضحكات استفزازية للشاب العشريني "لازم يشوفك ذليل عشان ميضايقكش"، بعدها "عدى قدامي في مسافة صغيرة ما بيني وبين العربية، لدرجة أنه كان هيوقعني"، هو ما زاد من إحساس خريج كلية التجارة جامعة القاهرة بالعجز الشديد، قبل أن يسمح الضابط أخيرًا له بالانصراف.
قبل 6 أشهر، قرر "نبيل" تجديد رخصته المُنتهية، بعد أن تحصل على المبلغ المطلوب لذلك. في طابور طويل، داخل قسم بولاق، وصل "نبيل" إلى مقدمته، طُلب منه ملئ استمارة تحوي خانة للوظيفة "أمين الشرطة قالي شغال أيه، قولتله مش شغال"، فجاء رد الشرطي مستهزءًا "نعم ياحبيبي، إحنا هنهزر"، قبل أن يطلب منه الابتعاد عن الصف، فما كان من الشاب العشريني إلا أن شرح له ظروفه الخاصة "قولتله أنا معاق ولابس جهاز"، بينما جاوبه الشرطي بنبرة حادة "مش مشكلتي، هتقف على جنب، ولا أجيبهوملك من جوه". فيما تملكت الحسرة صاحب الـ26 عامًا، فطالبه جمع من الناس الرضوخ لطلباته؛ حتى يتمكن من إنجاز مصالحه.
معاناة يومية يتلقاها "نبيل"، أحوال معيشية صعبة، ظروف اقتصادية تؤلمه حال الآلاف من شباب جيله، لكن إعاقة قدمه اليسرى تزيد من أوجاعه المستمرة. منذ سنوات بعيدة، يتنامى إلى سمع الشاب العشريني وعود تستهدف إصلاح أحوال ذوي الاحتياجات الخاصة "فعليًا مفيش حاجة بتتقدم على الأرض". ورغم امتلاكه "كارنيه تأهيل"؛ بدوره يقوم بتسهيل الحياة العامة من مواصلات، وتقديم خدمات تخفيض استخدام النوادي والمرافق العامة "بس مبيعملش حاجة نهائي" لذلك قرر "نبيل" التخلص منه. حتى الآمال التي عقدها صاحب الـ26 عامًا على برلمان يحوي بين أعضائه 9 من ذوي الاحتياجات الخاصة، سرعان ما تبددت بعد مرور أقل من عام واحد على بداية انعقاده.
قبل أيام عمل "نبيل" موظف إداري بإحدى شركات القطاع الخاص مقابل مرتب ذهيد عن طريق وساطة أحد أقاربه، حتى يتمكن من تجميع مبلغ يكفيه الحصول على شقة صغيرة "هقدم في مشروع الإسكان، وبتمنى يكون في شفافية وتروح الشقق للي يستحقها" لإتمام زواجه. فيما يعتقد الشاب العشريني أن إحياء يوم للتذكرة بحقوق ذوي الاحتياجات في مصر لن ينعكس بالنفع الكثير على أحوالهم المُتدهورة "إحنا منسيين من زمان.. اليوم هيعدي عادي وهنرجع تاني منسيين".
فيديو قد يعجبك: