على بعد 90 كيلو متر من العاصمة.. ماذا فعل "التعويم" بقرية مصرية؟
كتبت- دعاء الفولي وإشراق أحمد:
جلست سيدة شعيب أمام منزلها في كفر قنديل، فيما مر أحد جيرانها شاكيا عدم المقدرة على شراء السُكر، بعد بلوغ سعره العشر جنيهات. لم تتردد أم الطفلين قبل أن تبيعه كيس من مخزونها المنزلي مقابل 8 جنيهات "أصل أنا بجيبه من التموين فقلت ولادي أولى بالفلوس دي". تُدبر السيدة الثلاثينية طعام أسرتها بالكاد، صار التعايش بطولة في مقابل ارتفاع أسعار السلع والأنابيب، بينما يبقى سوء الحظ حليفها، إذ تقطن في مركز أطفيح الذي يبعد 90 كيلو عن العاصمة، ما يمنع وجود رقابة أكبر على السلع.
على مساحة 240 كيلو متر يمتد مركز أطفيح الذي يحوي عدة قُرى منها كفر قنديل. داخل الكفر مستودعان لأسطوانات الغاز، وستة منافذ لبيع السلع التموينية. قبل أسبوعين استيقظ أهالي القرية على أسعار لم يشهدوها من قبل؛ وصل سعر أسطوانة الغاز لما يقرب من 30 جنيه، مما دفع البعض للعودة إلى الأفران الطينية للطهي، وامتدت الأزمة لبعض السلع التموينية أبرزها السكر.
في اليوم التالي لتحرير سعر صرف العملة "تعويم الجنيه"، خرجت الوزارات تباعا -الجمعة 4 نوفمبر الجاري- تصرح بالقرارات المتخذة، فتحدث وزير التموين محمد مصيلحي أن سعر رغيف الخبز والسلع التموينية لن تتأثر، فيما قال المتحدث باسم وزارة البترول في مداخلة هاتفية لأحد البرامج التليفزيونية أن سعر غاز المنازل ارتفع من 8 جنيهات إلى 15 جنيها.
عقب "التعويم" بأيام أرادت جمالات عبد اللطيف تغيير اسطوانة البوتجاز الفارغة، فأخبرها المندوب برفع السعر إلى 25 جنيها. كانت السيدة الخمسينية استمعت لتأكيد المسؤولين أن سعر الأنبوب 15 جنيها فقط، فقررت الذهاب لمعرفة سبب الغلاء بنفسها. توجهت لإدارة التموين بالوحدة المحلية، وبعد "مقاوحة" على حد وصفها، تم إعطائها ورقة مختومة للحصول على الأنبوبة بـ15 جنيها.
لم تفلح الورقة الرسمية المختومة مع مستودع البوتجاز، "قالي مفيش انبوبة هتطلع بالسعر ده وخلي الوحدة المحلية تنفعك" قالت السيدة جمالات. في الوقت ذاته وجد سعيد أحمد أن الحديث وحده غير كاف؛ فحرر محضرا ضد المستودع والوحدة المحلية، وامتنع عن شراء أنابيب البوتجاز منذ أسبوعين، وهبّ قائلا لمدير الإدارة المحلية "انتوا كده هتخلوا الناس تطلع عليكم تسرقكم.. هنجيب منين؟".
تحصل شعيب على 200 جنيه شهريا من زوجها لتدبير أمور المنزل "جوزي بيقبض 450 جنيه من الشئون عشان عمل حادثة في عينه ومش بيشتغل". تدفع نصفهم لإيجار المياه والكهرباء وشراء الأنابيب، وتُنفق من المئة الأخرى على الطعام. لا لحوم في بيت الأم إلا عندما تنفرج الأحوال قليلا "لما بنزل ساعات السوق أنادي على الخضار وآخد خمسين جنيه"، وتُطلق على انفراجة اللحم "يوم الطبيخ".
وفيما تُحكِم شعيب خطتها كي يمر الشهر بسلام، يضرب أحمد (40 عاما) كفّا بكف؛ فوصول سعر أسطوانة الغاز حتى 27 جنيها يبقى فوق طاقته المادية. "ممكن استهلك 4 أنابيب ليا ولابني المتجوز -7 أفراد- يعني هدفع 100 جنيه.. عشان الأنبوبة مبتبقاش مليانة لأخرها" قال الرجل الذي يتحصل على 500 جنيه شهريا نظير عمله كفرّاش بإحدى المدارس، قبل أن يمر على ابن عمه علي عبد الستار-مندوب لتوزيع الأنابيب- مُحتدّا عليه، ليُفصّل له الأخير أسباب رفع سعرها.
"الراجل بتاع المستودع حالف ما ينزل الأنبوبة عن 20 جنيه وبتاع التروسيكل بياخد 5 جنيه زيادة على كل أنبوبة وأنا بزود 2 جنيه".. قالها عبد الستار لأحمد مُدافعا لموقفه. في كفر قنديل اتفقت العائلات على انتداب شخص عن كل بضعة أسر كي يستلم حصتهم من الأنابيب ليوزعها عليهم "قولنا دة أفضل من إننا نعتمد على السريح اللي شغال مع المستودع فالمندوب بيبقى رقيب عليه".
الرقابة غائبة في الكفر حسبما يرى أحمد، فلم يتم البت في محضره المقدم في القسم ضد المستودع والوحدة المحلية حتى الأن.
الوحدة المحلية هي المخول لها الفصل بين المواطنين والباعة التابعين للتموين. بأول القرية يقع المبني الأحدث من بقية البنايات. لا يتواجد لافتة تميزه. بداخله تجلس ملكة ناجي أو "أم إسلام" كما يعرفها الأهالي، تجد أنهم كموظفين يعملون ما بأيديهم فالسلع متوفرة لكن "جشع" البعض هو ما يتسبب في حالة الغلاء، قائلة "إحنا من أهل البلد والحال علينا إحنا كمان ونفسنا الأسعار تبقى رخيصة".
وبينما تستفيض موظفة إدارة التموين في الحديث عن القرارات الرسمية الشاملة لأسعار السلع، انفعل من تواجدوا بالمكتب. أخبرها أحدهم أن انبوبة البوتجاز تتفاوت في سعرها، ولا تقل عن 20 جنيه، رغم أن السعر المصرح به 15 جنيها، فأجابت السيدة أن كلام الوزارة كان شفهيا، ولم يصل إليهم منشورا رسميا، وبسؤالها عن أخر سعر رسمي لديها به منشور قالت "8 جنيه وده من سنين فاتت".
وفي الكفر حيث المكان مازال يحتفظ نوعا ما بطابع الريف، تحولت الشكوى من رغيف الخبز إلى الدقيق. منذ نحو عامين لم يعد للطحين مكان في منافذ التموين كما السابق "الحكومة سحبت الحصص كلها وأكلت علينا حقنا" كما قالت السيدة جمالات، التي كان يمتلك زوجها أحد المحال المورد إليها جوالات الدقيق. نحو 40 جوال كانوا يتحصلون عيلها لتوزيعها، انخفضت لـ38 ثم إلى اللاشيء دون سبب، سوى اقتصار الدقيق على المطحن الوحيد المتواجد بالقرية.
مع مطلع الفجر تفترش الطوابير أمام المطحن للحصول على أرغفة الخبز. أحيانا تذهب السيدة المسن لتجد عربات "التروسيكل" تمتلأ أولا لتذهب وتبيع الخبز ذاته "8 أرغفة بـجنيه وربع مع أن الرغيف بـ 5 قروش". بعدها يأتي دور أصحاب الحصص المحفوظة في بطاقات التموين إن بقي وقت "كل فرد ليه 15 جنيه في الشهر.. وفي اللي بياخد بدالهم شكاير دقيق".
خمسة وستون جنيه هو مقابل السلع التموينية التي تأخذها شعيب شهريا. تعتمد على بضع علب من التونة، ثلاثة أكياس من السكر وصابونة أو اثنتين، ونصف شوال من الدقيق "التموين بتاعنا مفهوش عيش فنص الشوال بنخبز منهم 50 رغيف طول الشهر". لولا أهل الخير الذين يوفرون لها بضع أكياس من الأرز والمعكرونة والزيت لصارت الحالة أسوأ كثيرا.
"الدعم أصلا في الفلاحين غير القاهرة.. عمرنا ما كان لينا دعوة باللي بيحصل في مصر ده" بنبرة استنكار قالت هندية المليجي عما تشهده القرية الصغيرة هذه الأيام من غلاء غير مسبوق، مضيفة أن متوسط الأسعار بالأعوام الماضية ما كان ليزيد عن جنيهين، ولم يكن هناك اختفاء لأي سلعة حال السكر، الذي اضطرت الوحدة المحلية لجلب سيارتين منه بحمولة طن لتكفي احتياجات القرية، ولم تسلم هي الأخرى من شبهة انعدام الرقابة.
قبل أسبوع مع اقتراب الساعة من الحادية عشر مساء، شاهد "محمد" ابن السيدة هندية عربة نصف نقل محملة بأكياس سكر. "كانت مردومة" حسب وصفه، ومسافة ربع الساعة ابتعد فيها عن المكان، عاد فلم يجد شيئا على العربة.
في الوقت ذاته جاء سيد صلاح اتصال يُبشره بوجود سيارة مُحمّلة بأكياس سُكر مُدعم على مدخل الكفر، طار الشاب على وجه السرعة للبقعة المنشودة "بس مكانش فاضل غير 3 كيلو سكر وملحقتش أخد أي حاجة".
منذ سبعة أشهر لا تحصل أسرة صلاح المكونة من خمس أفراد على التموين. خطأ في رقم بطاقة الوالد جعلها تالفة، ما يفرض عليهم التعامل مع أسعار السلع خارج نطاق الدعم، حسبما يقول الشاب ذو الـ18 عاما.
بين الحصول على أنابيب وتوفير السلع يحيا أهالي كفر قنديل، تعيّن عليهم التعايش مع الأحوال الجديدة، كما حدث مع أسرة سعيد أحمد.
في منزل أحمد لم يعد لرائحة الطعام وجود، ينفتح الباب فإذا بزوجته تجلس والنار مطفأة، فمنذ ارتفاع أسعار اسطوانات الغاز قرروا العودة للفرن الطيني، لكن عند جيرانهم حيث يتواجد واحد بسطح منزلهم، فيما انصرفت شعيب عن شراء الأنبوبة كذلك، مكتفية بما تبقى لديها من غاز، وشيئا من أرز فائض من فترة طويلة لكنه لازال صالحا.. قائلة "كده كده مبطبخش إلا كل فين وفين".
في المقابل صرّح سيد إسماعيل، مدير إدارة التموين في مركز أطفيح، أنه ليس هناك مشكلة في السلع التموينية، لكن في الأنابيب. موضحا لمصراوي أن الوزارة قامت بحملة للتفتيش على مستودعات الغاز التابعة للمركز، للتنبيه على الالتزام بالسعر الرسمي للأنابيب وفقا لقرار المحافظة بتحديد السعر في 17 جنيها ونصف.
وقال إسماعيل إنه تم تحرير محاضر ضد أحد عشر شخصا لم يلتزموا بأسعار أسطوانات الغاز، مضيفا أنه تم إبلاغ مديرية أمن الجيزة بتلك المحاضر، فضلا عن تحرير إدارة التموين مذكرة في 11 نوفمبر ضد المستودعات المخالفة، لتوقيع جزاءات عليها، تنحصر في غرامة من ألف جنيه إلى عشرة آلاف جنيه أو تقليل حصة الأسطوانات، لتصل غلق المستودع، فيما استبعد إسماعيل العقوبتين الأخيرتين لأن الضرر سيعود على المستهلكين.
في كفر قنديل، بمجرد أن ينفتح باب الحديث تنساب شكوى غلو أسعار اسطوانات الغاز والسلع بما فيها التموين، غير أن شعيب ظلت جالسة في مكانها، يشغلها هما إضافيا: كيفية رد 40 جنيها استدانتها ثمن دواء لزوجها، الذي تنتظر بفارغ الصبر حصوله على المرتب الشهري، لتعيد دائرة تدبيرها مرة أخرى.
فيديو قد يعجبك: