ذكريات البهجة في حياة أطفال أكتوبر: "لبسوا الكاكي وزغرطوا للشُهدا"
كتبت- علياء رفعت:
طفولتهم لم تكن أبدًا بالعادية التى يحياها كثيرون ممن في أعمارهم الآن، فقد شهدوا في عامٍ واحد ما لن ينسوه طالما امتد أجلهم. هُم أطفال حرب السادس من أكتوبر 1973، فكُل شيء بالنسبة لهم طازجًا عالقًا بالأذهان كما لو أنه حدث بالأمس حتى بعد مرور ثلاثة وأربعين عامًا على تلك الحرب.
الحياة في ظِل الحرب كان لها طقوسًا خاصة ابتدعها الأطفال -للتسرية عن أنفسهم والاحتفال- ومارسوها ببهجة تمتزج ببراءة ولهو سنواتِ عمرهم الأولى.
"الجوابات هي الوسيلة الوحيدة اللي كانت بتربطنا ببابا وقت الحرب" قالتها مُنى حسين -السيدة الخمسينية- بحُب يطُل من عينيها لوالدها الذي كان يترأس قيادة إحدى كتائب المُشاة بالجيش الثالث وهو ما استدعى تواجده على الجبهة منذ بداية حالة الاستنفار والتدريبات المُكثفة التي عايشها كُل أفراد الجيش قبل الحرب بثلاثة أشهر، لتُضيف "اليوم اللي كان يوصلنا فيه جواب منه ده عيد، الفرحة بعينها وسط الخوف والقلق".
كانت لقراءة تلك الجوابات نكهة السعادة وطقوسًا تحافظ عليها العائلة بأكملها. تبدء تلك الطقوس بإكرام أصدقاء والدها في الكتيبة واللذين كانوا يحملون إليهم خطاباته مع ظرفٍ صغير يحوي النقود التي يبعث بها كُل شهر، وتنتهي بقراءة أشقائها الثلاثة ووالدتها للجواب كُلٍ على حِدا بصوت مُرتفع "بنسمع الجواب من بعض حوالي خمس مرات، لازم كل واحد فينا يقراه لوحده بصوت عالي، وأوقات كنت باخد منهم الجواب احضنه فاحس إني حضنت بابا".
الحياة اليومية للأطفال في ذلك الوقت لم يغلب عليها الخوف كما تؤكد منى إلا وقت شَن الغارات والتي لم تكن بالبعيدة عن القاهرة حسبها. "أول ما بنفتح عنينا الصبح بننزل نلعب في الشارع، لكن لما الدنيا تضلم عند أذان المغرب لازم نطلع البيت" كان ذلك هو الشرط الأول الذي فرضته الأمهات على أطفالهم لضمان سلامتهم، حمايتهم من الغارات التي كانت تحدث ليلًا، وللسماح لهم باللعب في الشوارع آنذاك، باقي الشروط انحسرت في عدم التقاط أى شيء من الشارع مهما بدا براقًا أو جذابًا لهم "كان بيقولوا لنا إن الحاجات الحلوة اللي بنلاقيها مرمية في الشارع ممكن تعورنا أو تنفجر في وشنا، وإن الإسرائيليين هما اللي رامينها عشان يأذونا".
أما عن الألعاب التي كان يمارسها الأطفال في ذلك الوقت فقد غلب عليها طابع الحرب نظرًا لما كانوا يعايشونه، "عسكر وحرامية كانت لعبة الولاد المُفضلة، بس كانوا بيلعبوها مصريين وإسرائيليين، يعملوا كأنهم بيضربوا بعض بالنار والمصريين ينتصروا". الرسم أيضًا كان له نصيبًا كبيرًا من أوقاتهم وكان كُله يدور حول الحرب بخيال الأطفال فيرسمون جيشهم مُنتصرًا وعلمًا مصريًا مرفوعًا على أرض سيناء التي أخبرهم مُدرسيهم أن إسرائيل قد احتلها رغبًا في انتزاعها من مصر "المدرسين علمونا نكره إسرائيل من قلوبنا، اتربينا على كرهها بحكم إنها عدو، وكنا بنتسابق دايمًا ازاى نعبر عن ده بالرسم أو مواضيع التعبير حتى قبل ما ننتصر".
مشاهدة الأفلام الوطنية والاستماع إلى البيانات الإذاعية أيضًا كانا ضمن روتين الأطفال اليومي ليلًا بحكم تفضيلات الآباء والأمهات التي تَشربها الأبناء بمرور الوقت وصارت من عاداتهم "كنا بنتجمع كلنا قدام التليفزيون ونتفرج على كل الأفلام الوطنية اللي كانت بتتذاع زي (بورسعيد.. المدينة الباسلة)، و(لا وقت للحب)". في الصباح كان الصِغار يحاكون ما يشاهدونه ليلًا في لعبهم فيقمون بعمل الطوابير ويلفون بها الشارع على هيئة "القطار" وهم ممسكون ببعضهم البعض مُرددون "يا وابور يا مولع ولع نار، في بينا وبينهم دم وتار".
ليلة النصر كان لها طعمًا خاصًا حسبما تذكر منى ابنة العشر سنوات آنذاك "لما عرفنا إننا عبرنا أمي فضلت تزغرط ونزلت جابلتنا بلالين ملت بيها البيت، كنا بنتنطط من الفرحة، ولفيت أنا واخواتى على عيال الشارع بيت بيت جمعناهم ورحنا اشترينا بُمب وفرقعناه، و فضلنا بعدها نلعب في الشارع للفجر وإحنا حاسين بأمان ومش مصدقين إننا كسبنا الحرب".
مظاهر الاحتفال لم تتوقف عِند هذا الحد كما تؤكد مُنى بل امتدت لميسوري الحال واللذين كان منهم إحدى الساكِنات بالعمارة، والتي قامت بعمل أطباق الأرز باللبن الشهية، ووضعت فوقها المكسرات ثم نادت الأطفال الصِغار وطلبت منهم أن يقوموا بتوزيعها على سُكان الشارع بأكمله على أن يبلغوا كُل من يعطونه طَبقًا بأنه "حلاوة النصر والعبور".
خيوط الفرحة المصحوبة بالزغاريد امتدت بعد العبور لكل شبر من أرض المحروسة، ولكنها كانت مشوبة بالقليل من القلق في حي إمبابة حيث يعيش الطفل "عادل الشربيني" ذو الثالثة عشر عامًا في ذلك الوقت، كان الخوف خشية ارتداد النصر والتقدم كما حدث في حرب 67، ولكن الأيام التي تلت السادس من أكتوبر توالت فيها الانتصارات التي احتفل بها الجميع كِبارًا وصِغارًا.
يتذكر عادل تلك الأيام بوضوح بينما ترن في أذنه أغاني الحرب التي كانت تتسرب من الراديو القابع بكُل منزل وقهوة على حد السواء فتملئ الشوارع بأنباء الانتصار وبهجته. "بعد كام يوم من العبور، لما اتأكدنا من النصر الفرحة مكنتش سايعانا لدرجة إننا بقينا بنتكلم بلغة العساكر وبألفاظ الحرب، فمثلًا لما نحب نعدي حد واحنا بنلعب كورة في الشارع كنا نقوله (أعبر يا دُفعة)".
"الفرحة كانت منورة مصر بكل شواعها وميادينها" بهذة الكلمات استرجع عادل -الذي تجاوز الخامسة والخمسين - ذكريات البهجة في الأيام التى تلت العبور، حيث قامت كُل نساء الشارع الذي كان يسكُن فيه بـ"بَل" الشربات وتوزيعه يوميًا على كل سُكان المنطقة، بينما أقدم أصحاب المقاهي على توزيع زجاجات الكوكاكولا "المشبرة"على كُل المارة فرحةً بالنصر..
العيد الذي تلا الانتصار والعبور كان له طابعًا مُختلفًا أيضًا، فامتزجت بهجته ببهجة الانتصار في الحرب كما يوضح عادل "لبس العيد في السنة دي مكنش زي كل سنة، كان على هيئة بدل العساكر في الحرب، والعيال كُلها بقت ماشية في الشارع لابسين البدلة الكاكي دي وهُما بيضربوا التحية العسكرية لبعضهم بدل تهاني العيد العادية بكل سنة وانتوا طيبين". حتى الألعاب التي كان يقتل بها الأطفال الوقت ويسلون أنفسهم تغيرت بعد الحرب هي الأخرى "كنا بنتسابق بعمل المراكب الورق ونحطها في طشط الماية ونعمل كأننا بنعبر من شط للشط التاني".
الطريف في الأمر أن الاحتفالات الذي يذكرها الرجل الخمسيني من أيام صِباه امتدت بعد انتهاء أكتوبر لشهورٍ عِدة، بل رُبما لعامٍ كامل توافد خلاله الجنود عائدين من الجبهة لذويهم وكان للاحتفال بهم بريق لامع لا زال يثير الفرحة في نفس عادل "لما كنا نشوف عسكري راجع من الحرب داخل شارعنا بالبدلة الميري الستات كانت بتزغرط من كتر فرحتهم برجوعه حتى لو ميعرفهوش، والرجالة الكبار بيجروا عليه وياخدوه بالحضن، والعيال الصغيرة يروحوا يسلموا عليه ويتمسحوا في بدلته ويغيظوا أصحابهم بقولة (أنا سلمت ع الدُفعة).. كانوا مدعاة للفخر بصحيح".
لكن ذلك الوضع كان مُختلفًا تمامًا بالنسبة لفتاة الحادية عشر عامًا "فاتن محمد"، والتي ذهبت للمدرسة كعادتها اليومية لتفاجئ بإلغاء طابور الصباح وتنكيس العلم دون أن تدري لذلك سَببًا واضحًا حتى أخبرتهم المُديرة بأن زميلة لهم قد استشهد والدها في الحرب، لتُطلق وقتها المُدرسات الزغاريد فتلمىء سمع كُل الحاضرين. "مكناش فاهمين يعني إيه شهيد، ولا إيه الفرق بينه وبين اللي يموت عادي، لكن لما المدرسات شرحولنا وفهمونا بقينا نرقص ونتنطط من الفرحة وهُما بيزغرطوا، حتى وفاء كانت فرحانة وبتقول أنا أبويا حى في الجنة".
تابع باقي موضوعات الملف:
من داخل قريته.. مصراوي يستعيد فرحة الشعب بأول شهداء أكتوبر
معركة جبل مريم.. مكالمة عائلية على خَط النار ''تُرد الروح''
بالصور- البهجة على صفحات الحرب.. حكاية 100 ''بيجامة'' وصواريخ في ''قفة''
حكاية غنوة رددها المصريون أعلى دبابات إسرائيل.. ''شدي حيلك يا بلد''
حكايات من الشوارع العربية.. كيف احتفل الأشقاء بانتصار أكتوبر
''الصورة واللي صورها'' من أقدم استوديو لجنود مصر.. اضحك يا دفعة للنصر
بالصور-كيف سخر الكاريكاتير من هزيمة إسرائيل في أكتوبر 73؟
فيديو قد يعجبك: