معديات المصريين.. نعوش للموت - "بروفايل"
كتب– إشراق أحمد ويسرا سلامة:
يقبض على يد صغيرته، يخبرها بحدة الراعي، وحنان أب، أن لا تبرح يده لأي سبب، حتى يبلغا شاطئ الوصول، يتمتم بما يحفظه من ذكر، راجيًا في عناية إلهية، تفهم شر ذلك الذي لا مفر منه، مرسى الذهاب يبتعد، يشخص بصره الوجهة المرجوة بالجانب الآخر، ينظر للماء المحيط، والمركب الصدئ السائر، يلوح بعقله شبح تفكير فيمن ابتعلت تلك المياه قبل أشهر وسنوات لم تنقطع، وحملتهم مثل تلك المركب على ظهرها، بطء السير يزيده هما، يعتصر قلبه، بما لا يطيق من أسئلة، لا إجابة لها إلا "ما باليد حيلة"، فكم ود لو سكن بأبعد ما يكون عن تيار "البحر"، أو يستيقظ يوما، فتلمس قدماه برا، دون حاجة إلى وسيط خشبي تتساوى مرات استخدامه وسنوات عمر عائلته أبا عن جد، يهتز المركب فتشتد قبضته على ابنته، تهمس نفسه بتضرع، يتمنى ألا يكون أخير، فيحظى برحلة أخرى إلى عمله، وصغيرته بدرس أخر في مدرستها بالشاطئ الأخر.
وقت مؤلم يمر على من كتب لهم القدر أن يمروا كل يوم فوق معدية على النيل حاملين أرواحهم بين شاطئين، نجت أرواح عديدة بفعل القدر، ولم يفلت الموت 32 شخصا في حادث الوراق في يوليو من العام الماضي، ومن أول ساعات العام الجديد راح 18 شخصا بكفر الشيخ، بين حادثة الوراق وسنديون.
"أنا لسه دافنة جوزي وفي عيلين مش لاقياهم وعد وحازم... جوزي طلعني ومات" بدموع تحاول التماسك قالت أحد الناجين من حادث الوراق، في لمح البصر راح نحو 32 شخص، مساء الخميس 23 يوليو 2015، لمرور صندل غير مسرح له السير ليلا، ليصطدم بمركب على متنه العشرات، تمنعوا أن يحظوا ببعض الفرح، تتناسب وامكانياتهم، لكن في "العتمة" لا تفرقة، يصير الشخص رقم في كشوف الضحايا، وبين أصحاب النعوش المودعة إلى حياهم الأخرى، لعلهم لا يخافوا ولا يحزنوا بعد ذلك أبدًا.
عيوب فنية، غير مرخصة.. أسباب سرعان ما تتداول فور وقوع الواقعة، فيما يتجلى الإهمال صارخا بكل مرة، تزهق بها الأرواح، بفعل "توصيلة" بمركب، يعاب على المواطنين لركوبهم مثل تلك الوسائل غير الأدمية، استقلالها في ظلام الليل، فيما لم يخرج مَن يتحدث عن اختفاء المراقبين، أو المفتشين على الصيانة، ومتابعة التراخيص، بينما تكثف كافة تلك التدابير باليوم التالي من الحادث، كأنما يلزم للأمان "نغز" بوفاة العشرات للانتباه.
إهمال موظفين، مواطنين، لا حيلة لهم إلا تلك الوسيلة الصغيرة، غير المختلفة عن حياتهم المتهالكة البسيطة هي الأخرى، هو ما تتردد عقب كل حادث، وتصدح الألسن "لازم يكون في رقابة"، غير أن الأيام تمر، بما فيها من أحداث، لتعاد الكرة مع وقوع حادث أخر، وكأن الدائرة انغلقت على نفس الأفعال والأقوال.
بكاء، صراخ يهز البشر والحجر، حزن يُغرق المكان، بحجم الماء الذي احتضن جثث، يزداد عددها بمرور الوقت، عيون تتابع رجال الانقاذ، فيما تهم أيدي، لا تعرف سوى أن "الواجب" يحتم عليها الظهور في مثل تلك المواقف، وإليها في كل مرة يرجع الفضل في نجدة قبل أن تأتي قوات الانقاذ ويبدأ الهرج، يهرع أهالي المنطقة الواقع بها الحادث في كل مرة، يهرول البعض إلى حيث يترصد الموت، لعلهم يحدثون فارق في حياة أحدهم، بانتشاله من موت، ما إن يحل حتى تتهافت الدعوات بتعجيل تشكيل لجان تحقيق، تبت في سبب حدوثه، ومحاسبة المسؤول، فيما تنادي أخرى بـ"تطوير القطاع النهري".
المشاهد تتشابه، مأساة أخرى تكرر ، بمحافظة كفر الشيخ، وفي الساعات الأولى من العام الجديد شاء القدر أن تسحب مياه النيل 15 شخصا من أصل 18 كانوا على متنها، وفي أخبار أخرى قيل إنهم 20 شخصا، وما بين قرية سنديون بكفر الشيخ وديروط التابعة لمركز المحمودية بالبحيرة، حيث تعرض المركب للغرق، وانتقلت قوات الإنقاذ النهري للبحث عن الجثث والناجين.
"موتنا من غير طوق نجاة"، انطلقت تلك العبارة على لسان أحد أهالي الضحايا، والذي فقد 6 من عائلته بحسب تقرير تلفزيوني ، وفي الوقت الذي تم البحث فيه عن الجثث من ناحية، خرجت دائرة من التصريحات والقرارات الحكومية، لم تقلل من عمق المأساة، لحال القرية التي أصبحت سرادق كبير، من مات منهم أفرادا أو من لم يمت.
وكأنها مسكن عقب كل حادث أليم، تخرج التعويضات من جهتين للضحايا والمصابين على السواء، حيث قررت وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي صرف 10 آلاف جنيه لأسرة كل متوف في حادث غرق المعدية، و2000 جنيه لكل مصاب، ونفس القيمة للضحايا، و5 آلاف جنيها لكل مصاب.
كل ساعة تمر على جسد الغريق بالمياه، وخروجه منها، يهدد بطمس ملامحه، فكان ذلك كفيل بتعلم البعض مهارة تصوير الجثث، ليتعرف ذويها عليها، بالمقابل على البر لم يخرج مَن يحفظ جسد الدولة مما تفعله بها حوادث الغرق تلك، بل تستمر المياه في احتضانها الأجساد، مقابل تتأكل ملامح مسؤولين حتى تكاد لا تُعرف.
ساعات طويلة، تعرضت فيها معدية سنديون لتوقف العمل بسبب الحادث، فيما خرج قرار من وزارة التنمية المحلية عقب حادث الوراق بحملات تفتيشية على المركب النيلية، وبين الحادثين تسير معديات المصريين على شفا أمل النجاة من وحش الغرق.
فيديو قد يعجبك: