إعلان

صلاح جاهين.. صاحب البيانولا (بروفايل)

08:23 م الأربعاء 22 أبريل 2015

صلاح جاهين

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- نسمة فرج وإشراق أحمد:

تستقبل عيونه النهار، مستعينا "على الرزّاق" يمضي بالطرقات، يسير خفيف الحركة، رغم ما على ظهره من ثقل محبب، عند المتفرجين هو "بيانولا" أما بالنسبة له "صندوق الدنيا"، بحركة من يده لذارع الصندوق الخشبي تنقلب الحياة- وإن كان لا يرى في نفسه شيء-؛ ينكسر الصمت، يصمت الزحام، ولا يعلو صوت فوق ما يصدر عن آلته من أنغام، تتمايل معها الأجساد، يبلغ الخيال عنان السماء مع الصور والقصص المنطلقة في سلاسة، وتذوب القلوب وتنتشي بالسعادة.. هذا مبتغى "صاحب البيانولا" في وقت مضى، لكن "صلاح جاهين" لم يتوقف عن السير على دربه، يحمل أشعاره بل فنه مهما كان به من ثقل، ملتمسا ابتسامة على الثغور، "وانبساط" يترك بصمته في الروح.

يدير صاحب البيانولا ذراع آلته، وأما التحية "مسا التماسي يا ورد قاعد على الكراسي"، التمثيل هوايته منذ الصغر، لكن "درامية" والدته وتخيلها لمصيره المظلم، ابعده عما يحب، لكن مسٌ من الفن ظل يراوده، فحينما يصطدم "جاهين" بحجر بالطريق، يوجِد سبيل آخر بمرونة غير مسببة، كأنما يبحث عن نغم جديد.

تفضيل "صاحب البيانولا" للصحافة أعطاه إشارة نحو طريق جديد، وصفحاتها وضعته عليه دون قصد "كنت كسول وبعمل الحاجة في آخر لحظة"، فيرسم بسرعة وعجلة من أمره فإذا به "كاريكاتير" ظل يمارسه لسنوات طويلة عل صفحات الأهرام، مضيفا لقب "الرسام" إلى توصيفه.

تدور "البيانولا"، يتغنى "جاهين" مع اعترافه أن "صوته مش حلو"، يضحك الجمهور، وتتهلل أسارير الطفل الكبير، ويواصل متمايلا "أنا قلبي مزيكة بمفاتيح من لمسة يغنيلك تفاريح"؛ تفاريح تجدها في رسم، شعر، ومسرح، وسينما، "كوكتيل" إبداع، لم يكن يوما معه "جاهين" حال ما يوصف "صاحب بالين كداب"، بل ترك نفسه لـ"نداهة" الفن، بقناعة "اتعب نفسي ليه واختار.. اللي هتتغلب على التانية هتستمر"، غير أن جميع انتاجه المختلف المواهب استمر رغم رحيله.

"بهاء" كان أقرب المطلعين على أنغام "صاحب البيانولا"، ذهب إليه وهو طالب بالثانوية العامة، يعطيه 90 قصيدة، يطالبه أن يتخير منها الأفضل، يندهش الأب لفعل ابنه، "متى كتب هذا؟" يتساءل، فيما يخبره الابن "وأنا بذاكر"، لم يستطع "جاهين" أن يمنع ضحكته، فتلك الفعلة هي حيلته بعد أن منعته عائلته من الرسم، فما كان له وهو بسن صغير سوى "اعمل حاجة من غير ما حد يحس"، فظهر الشاعر يكتب شعر عمودي "أقبل الجلد وولى الجبناء وبدا طيف المنايا في الفضاء".

ربما كثرة جولات "جاهين" بطرقات الجمهور، وتكرار إدارته لألته، جعلت النسيان نعمة يحمد الله عليها، كلما طالبه أحدهم بتذكر شيئا مما كتب، لكن بارك الله في كتب حفظت ما سطر "جاهين".

بطريق "البيانولا" الإبداعية الخاصة بـ"جاهين"، يحدثك عن القمر والطين، وأهل الهوى، يقف معك على "ناصية الشارع"، يشاركك رثاء بيرم التونسي، ينصحك "مفيش بلد صانت كرامتها إلا بتضحية من أمتها.. ولا أرض أصبح لها حرمتها إلا لشعبها عنده مُروءة"، يحكي لك عن "الفيل النونو الغلباوي"، يدعوك لحجز مكانك من السعادة في "الليلة الكبيرة"، ويأمل أن تحفظ ذاكرتك رباعياته، يعايش معك الحنين "على اللي راح"، لكن يأبى أن يغادرك وأنت حزين، فيلقي نبتة الأمل "لسه الطيور بتفن والنحليات بتطن والطفل ضحكه يرن".

رغم البسمة والفرحة التي يبدو عليها "صاحب البيانولا"، غير أن الخوف شيء فطري، فيخشى  الكتابة السردية، فالكلمات بالنسبة له أغنية يسطرها، شطور "تتلضم" ببعضها، يتخللها موسيقى، تدندن لها الأسماع، لكن بخفة "جاهين" واقدامه على التجربة، كسر "الواد التقيل" الرهبة وكتب "خلي بالك من زوزو".

تدور "البيانولا" مرة أخرى ومعها كلمات صاحبها "مع اني ما فطرتش وجعان.. ومعذب ومتيم وجريح..  باتنطط واتعفرت واترقصت" هكذا كان حال "جاهين" في حياته ومع أحلامه، فقد ظل التمثيل "غواية" لم تبرح نفسه حتى تحققت في فيلم "لا وقت للحب" من اخراج صلاح أبو سيف والذي أعجب بتمثيله، ثم شارك معه في فيلم "اللص والكلاب"، وتوقف عن التمثيل لمدة 15 عاما وعاد في دور صغير في فيلم وثائقي بريطاني "موت أميرة" ويوسف شاهين في فيلم "وداعا بونابرت".

ميراث "صاحب البيانولا" المتروك، جميعه جاء بعد نشاط ينتاب "جاهين"، فينطلق إلى الأماكن، يخالط الرفقاء، الناس بالشوارع، "أقول أي كلام فاضي مالوش معنى وعبث أطفال"، لكن خبرته مع نفسه علمته "أن مدة طويلة بعدها مش هخرج من المكتب"، ومنها وضع نظريته عن الفن "هو نوع من اللعب".

حول "البيانولا" يلتف الأطفال، يقولون أن الصغار لا يميلون إلا نحو الشخص الصادق البريء مثلهم، أو مَن يُغلب في حضرتهم الطفل الكامن داخله، وكذلك كان "جاهين" حين يبعث بابتسامته والمحبة عبر الكلمات قائلا بصوت رخيم غير مصطنع "يا طفل يا اللي في دمي ناغى وحبى .. عشان عيونك يا ضغنن هويت حتى ديدان الأرض والأغربة".

أجواء وجود "البيانولا" تُشعر في الغالب بفرحة نسمات الربيع، غير أن "جاهين" طالما كانت علاقته مع ذلك الفصل مضطربة، يبعث في نفسه الشجن بل والاكتئاب، فيخرج صوته منكسرا "دخل الربيع يضحك لقاني حزين.. نده الربيع على اسمي لم قلت مين.. حط الربيع أزهاره جنبي وراح وإيش تعمل الأزهار للميتين"، وكذلك كانت نهاية فيلسوف الفقراء بالربيع في 21 إبريل 1986، وصدقت كلماته مرة أخرى حينما قال "لابد ما يموت شيء عشان يعيش شيء"، ففي الذكرى الـ29 لرحيله، جاء آخر أحفاده من أصغر أبناءه "سامية جاهين".

"البيانولا" يصفونها بأنها آلة مندثرة، لكنها ستظل بصمة للتاريخ، ومهد لما جد في الموسيقى من آلات حملت شيئا من الاسم فكان "البيانو"، فرغم رحيلها وفناء صاحبها، لكن الذاكرة لم تمحوها، وكذلك "جاهين" سيبقى "فاكهة الابداع" حتى وإن قال "باي باي على طول".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان