لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الدنيا برد.. والدفا نسمة حظ لبعض الشقيانين

02:50 م الجمعة 09 يناير 2015

عم محمد السيد

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-دعاء الفولي وإشراق أحمد:

للمارة تبدو أحوالهم مأساوية، صقيع الشتاء يلهب الأجساد، موجة البرد الشديد متواصلة، وأصحاب الرزق لا حيلة بيدهم سوى الثبات بأماكنهم سعيا وراء حفنة جنيهات آخر اليوم، لكن التفاصيل ليست كلها مأساوية، ثمة ميزة يحصل عليها بائعو الذرة، الفطير الساخن، الشاي، وحمص الشام؛ ألا وهي الدفء، ساعات عملهم رغم صعوبتها قد تنقضي بسلام إذا ما اقترب أحدهم مما يبيع، ملامسا أبخرته بحفاوة، فيحسدهم بعض المارة الذين يستدفئون ببضاعتهم، ويصبح الدفء موصول بين الأشخاص.

IMG_0138

بطاقية تغطي الأذنين، وقميص رمادي اللون متوسط الثقل، ويدين عاريتين، وقف عربي أحمد صقر ملوحا على الصندوق الصاج القابع أمامه، بمروحته الريشية، التي تغير لونها من كثرة الاستخدام، فيما كان المارة تتسارع خطواتهم على كوبري قصر النيل، تختبئ أيدي الكثير في الجيوب هربا من البرد، بينما هو منطلق في حركته، مقلبا الذرة حتى تكتسب لون الشواء، سنتيمترات قليلة بعيدا عن الطاولة الخشبية الواقعة بمدخل الكوبري كفيلة بإصابة العابر بشيء من الحرارة، يتوقف أمامها البعض معبرا عن حاجته للدفء بتناول ''كوز ذرة''.

هادئ الطبع هو ''صقر''، يمضي بعمله المتواصل يوميا من الثانية ظهرا وحتى ساعات متأخرة بالمساء، لا يعترض بينما يقلب ''الزبون'' في بضاعته، التي سلب البرد سخونتها لحد ما، فيعيدها البعض إليه مطالبا بإعادة تسخينها، أو شوي أخرى، ينفث البعض في يديه عله يلتمس الدفء، فيما يداعب آخرون الرجل الخمسيني ''أيوه يا عم عربي أنت مدفي لوحدك''، فيبتسم ''صقر'' الذي لم يبرح منطقة وسط البلد منذ قرابة 18 عاما، صيفا وشتاء يعمل الوافد من المنيا، فترات شتوية مرت عليه لكن هذا العام الأصعب ''الهواء شديد والساقعة صعبة'' حسب قوله، ومع ذلك ''أكل العيش'' يضطره للاستمرار.

لوح خشبي يستند نصفه على قاعدة تمثال أسد قصر النيل، ويمتد النصف الآخر ليحول بين ''صقر'' والمطر، كمظلة يحتمي تحته هو والصاج الحاوي لفحم الشوي، ينطفئ مع زخات الماء، فيعيد إشعاله لمواصلة عمله، لا يتوقف صاحب الذرة عن الشوي بأي حال من الأحوال كما يقول، فلابد من العودة بجنيهات تعين لحياة أبناءه الأربعة، وابنته المقبلة على الزواج، ففي حاجة المارة للدفء من حبات الذرة الساخنة رزق أولاد ''عم عربي''

ورغم أحوال الطقس وصقيع الشتاء، الذي يقل به الرزق أحيانا عن الصيف، غير أنه يظل الأفضل لـ''صقر''، فيه لا يشعر بمشقه العمل أمام النار، ''الجزء ده من جسمي كله بيبقى دفيان من الحرارة'' يتحدث مشيرا إلى وجه وصدره المنعمان بما يفتقده الكثير من المارة، فيما لا يطيق ذلك صيفا، وحينما يشتد البرد بظهره ''بلف شويه ناحية الشواية وأرجع تاني'' يقولها مبتسما، فالدفء زاده بتلك الأيام، التي يسعد بها بقلة تواجد ''البلدية''، متمنيا بفتح أبواب السماء مع هطول المطر أن يضمه محل ويغنيه عن الوقوف بالشارع.

عم محمد الصورة 2

حول فرن من الطوب التف الجمع، لجانبه صفيحة من السمنة، مفتوح أعلاها، وصينية كبيرة لا تهدأ أبخرتها، فوق الفرشة ثمة لوح خشبي قديم، معلق عليه لافتة تخص أصحاب ''شبه المحل''، بملعقة مسطحة كان عمرو يقلب الفطائر الساخنة على الصينية، مرتديا تي شيرت أصفر اللون، خفيف. بينما يغترف صديقه من اللبن الساخن ليضعه فوق الفطير، مقدما إياه للزبائن. خارج الكوة الصغيرة تابع محمد السيد المشهد، لم يستعجب ارتداء ولده الأصغر ملابس بسيطة ''الحرارة بتبقى عالية قدام الفرن''، كان قد خرج لتوه من نفس مكان عمرو للهواء الطلق، لذا ارتدى المعطف والكوفية مرة أخرى.

للشتاء القارس مزايا، لا يعرفها إلا ''السيد''. الثالثة صباحا يحضر الرجل الأربعيني وعاملين الفطائر والبسبوسة وبقية الأدوات. يبدأ العمل، تنتهي الوردية الأولى في الثانية عصرا، وتأتي أخرى حتى الثانية عشر صباحا، يعترف صاحب الفرشة أن وضع شتاء هذا العام صعبا ''أسوأ من السنة اللي فاتت''، إلا أن عجين الفطائر يمكنه أن يظل طوال اليوم دون أن يمسسه سوء، فعلى حد قوله ''الحر بيخلي العجينة تبوظ.. لدرجة إننا كنا في الصيف نلينها بمية ساقعة عشان متخمرش''، يتعامل صاحب المحل بمنطق أن المواد المتبقية أو التي تأثرت بالجو تُلقى في القمامة، لذا فخسائره في الشتاء أقل كثيرا.

لازال ''السيد'' يعمل بيديه، رغم أن تلك الفرشة ليست ملكه الوحيد؛ فلديه عدة محلات أخرى ومكان لتصنيع الفطائر، يتنقل بينها على مدار اليوم، غير أنه لم يفكر في إغلاق الفرشة، فهي ''فتحة الخير عليا.. بقالي بيها هنا 28 سنة.. كان فيه بنات صغيرين ييجو ياكلوا من عندي المدارس.. دلوقتي بيجيبوا عيالهم''.

نادية صابر.. الصورة  رقم 3

بالجوار سيدة خمسينية، انحنت على برّاد ضخم، مصنوع من الألومنيوم، لجانبه أكواب زجاجية، وعبوات من الشاي والقهوة، تصب فيه المشروبات، ارتدت ملابس ليس بالثقل المطلوب في ظل درجة الحرارة المنخفضة، لم تعبأ نادية صابر لعملها في موقف المطبعة بمنطقة المعادي، حيث تقدم الطلبات إلى السائقين بشكل أساسي، ينادونها بـ''أم أحمد''، تعمل على النصبة منذ 25 عاما تقريبا، صيف وشتاء، غير أن الوضع يختلف في الصقيع.

تخرج من بيتها في دار السلام بالثالثة والنصف صباحا، وتنتهي من عملها ليلا أيضا، لا يساعدها أحد في التحرك بأكواب الشاي داخل الموقف ''ربنا بيساعد''، قالتها بصوت متحشرج ينبعث من حنجرة مصابة بالالتهاب، المرض ليس في حسبانها؛ فلديها ولدان وابنة، أكبرهما أنهى دراسته و''على وش جواز''، لا يمكن مع المسئولية وعدم وجود زوج المكوث في المنزل. البيع يكون في الشتاء أفضل بالنسبة لها رغم وقوفها في العراء، دخان المياه الساخنة كان يلفح وجهها مرارا؛ فيدفئها، ويصيبها بالتعب فيما بعد ''كترة الوقوف في الدفا وبعدين الخروج للهوا بيتعب''.

كم من شتاء مر بصعوبة على السيدة الخمسينية أمام موقدها الساخن، تذكر أن الثلج كان يهطل العام الماضي بشراسة ''كنت بلمة في إيدي والله''، فلم تلملم حاجاتها عائدة للمنزل، تظل مستمرة في حركتها بين السائقين وبعض المارة الذين أهلكهم انخفاض الحرارة، يبتغون دفئا في المشروبات الساخنة، لا تلاقي صعوبة في العمل إلا حال الأمطار، فلا تستطيع صُنع القهوة حينها، ورغم المعاملة الطيبة التي تتلقاها من أهل الموقف، لكنها ترغب في كشك تبيع فيه أي شيء ''بدل الوقوف في الشارع''.

IMG_0163

بمنطقة وسط البلد، فم قدر مفتوح، دخان يتصاعد منه بينما يقف أمامه، يضع يده عليه، يستشعر الحرارة، لذلك لا يحتاج للمبالغ فيه من الملابس الثقيلة، على عكس زبائنه، من نار ''حمص الشام'' يتملك إسماعيل الشاعر الدفء في ليال الشتاء الباردة؛ فيمازح زبائنه ''هتبقى عايز تحضنها وأنت ماشي'' معبرا عن القدر الساخن.

لا يتوقف السخان الموضوع أسفل القدر عن العمل، إلا في ساعات متأخرة من الليل منذ البدء بعد عصر اليوم في البيع، بالصيف عربة ''زيكا'' البيضاء بمنطقة عبد المنعم رياض هي مقصد المتسامرين بالطريق ''اللي بيبقوا نازلين بالليل يتفسحوا''، أما الشتاء فالغرض معروف لكل منشدي الدفء من كوب حمص الشام الساخن، فما أن يتوقف أحدهم للشراء، يخرج المغرفة من القدر، يضع ما يكفي كوب بلاستيك، مضيفا إليه توابل تنشيط حرارة الجسد، من الليمون والشطة الحارة، ثوان معدودة في كل مرة وتضفى الحرارة على البائع والمشتري، الذي يذهب ملتمسا في ذلك الكوب حفظ الشعور بالدفء حتى الوصول لوجهته، فيما لا يبالي الشاب الثلاثيني، فالوقوف أمام القدر لم ينتهِ وقته بعد.

أراد ''إسماعيل البحر'' –اسم أطلق عليه لعمله بإصلاح اللانشات- أن يكون حرا، لا يتحكم به صاحب عمل، كما حدث بالسابق حينما اشتغل في التسعينيات بفندق هيلتون الواقف بالقرب منه الآن، عمل به لشهران فقط وتركه، ثم توجه لمجال الخراطة، وهى ما مكنته من صنع العربة، ليواصل ما وجد عليه أبيه في بيع حمص الشام، بمنطقة قريبة من مسكنه في بولاق الدكرور، دراسته بمعهد للسياحة والفنادق أكسبته الخبرة في صناعة ما يبيع، وحرصه على الاطلاع دفعته لعمل الشبك الحديدية لتكسب عربيته شكل مغاير للمعروف عن عربة مشروب الشتاء الساخن، ''خدت الفكرة من فيلم أجنبي'' يقول ''زيكا'' عن صناعته للعربة بهذا الشكل القائل عنه ''ده شغل سجون'' لقرب شبهه من سلك الزنازين حسب قوله، ولأنه يحفظ أدواته من السرقة.

أخذت السماء تهطل أمطارا، تنحى ''زيكا'' بالعربة جانبا، انتظر كالعادة حتى تهدأ الأمور ليواصل العمل، من أجل الخروج برزق اليوم المعروف في علم الغيب، لكن الأحوال لم تستقر، فاضطر الشاب الثلاثيني إلى العودة للمنزل دون شيء غير ملابس تشبعت بالمياه؛ موقف لا ينساه صاحب حمص الشام حدث قبل عامين، فذلك أصعب ما يمر به، خلاف ذلك لا فارق عنده الوقوف تحت سماء غائمة، ورياح عاصفة ''المهم متمطرش''.

 

فيديو قد يعجبك: