مسجد فاضل باشا.. هنا تلى رفعت أول وآخر آياته
كتب-إشراق أحمد ومحمد مهدي:
الحضور يزداد عددًا، منذ فجر اليوم يفدون، لا موضع لقدم داخل المسجد، وبالخارج ينتظر جمع آخر، يصل الشيخ، لا يبصر غير الوفاء للمكان، وخدمة القرآن، تتهلل الأسارير وتنفرج الثغور مبتسمة، تتلقفه الأيدي بالترحاب، حتى الوصول للباب تقبيل اليد موصول بينه ومحبيه، لا يريد أن يدان لأحد ولو بقبلة، على حصير يزداد ''قيثارة السماء'' خشوعًا، فيتجلى نور الآيات من صوته، يهيم الحشد تأثرًا، لا تتلفظ الألسن بغير كلمة ''الله''، ففي مسجد ''فاضل باشا'' طالما التقى المحبين بـشيخهم ''محمد رفعت''.
هنا الإخلاص الذي تشبث به سيد القراء –كما يلقبه البعض-، فكان له منه نصيب، بدرب الجماميز في السيدة زينب، ''تقصد مسجد الشيخ رفعت'' قالها بائع العصائر المتواجد قرب شارع المسجد، فلا يُعرف مسجد ''مصطفى فاضل باشا'' باسمه بل لشيخه الذي لم يفارقه منذ نعومة أظافره.
منذ سن الثالثة التحق الطفل ''محمد محمود رفعت'' بكتّاب ''بشتاك'' المقابل للمسجد، بين حفظ القرآن والتجويد، وتعلم القراءات وحتى الموسيقى التي أصر شيخه ''السمالوطي'' تعليمه إياها، أبحر بتتابع سنين عمره، كفيف البصر كان لكن حروف القرآن بالنسبة له كانت نور يهدي بصيرته، لذا أثر البقاء بالمكان الذي انتهل منه قبس ذلك النور.
قرب مدرسة الخديوية الثانوية يقع المسجد ذو البابين، فبعد دلوف الباب الخشبي، تكون ردهة الاستقبال؛ بها أرائك خشبية مرصوصة، وجزء خاص لحفظ الأحذية باليمين، فيما جزء خاص لصلاة النساء يسارًا، تنسدل أشعة الشمس من النوافذ الخشبية بالسقف، حتى يأتي الظل بعبور عمودين من الرخام متواجدين قبل الباب الحجري لساحة الصلاة، التي يعلوها لافتة مزخرفة كتب عليها ''إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا''.
''مصطفى فاضل باشا'' شقيق الخديوي إسماعيل، الذي إليه ترجع تسمية المسجد، بعد تجديده عام 1861، حيث كان المكان يجمع بين جامع، كتّاب، وسبيل باسم ''بشتاك''، ويعود إلى بشتاك الناصري وهو أمير مملوكي في عهد السلطان قلاوون، وتغير اسم المسجد فقط عقب إصدار والده الأمير ''فاضل'' الأمر بإعادة بناءه ونسبه لابنها.
وكأن المسجد يحمل طابع شيخه الذي لازمه حتى آخر يوم قرأ فيه القرآن، يوم الجمعة بعد أن غلبه المرض متوقفًا عند تلاوة آية 32 من سورة الكهف ''واضرب لهما مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا''؛ هاديء يغلفه السكون، الوافدون إلى الجامع بين مصلي، قاريء للقرآن، ونائم في ظل الساحة التي يبدو عليها الاهتمام، فيما يجانبهم ضريح باسم ''فاضل باشا''.
المسجد على حاله إلا من دخول بعض التجديدات للحفاظ عليه، وفي ساحة الاستقبال حيث لافتة تشير إلى حجرة الإمام، يحتفظ القائمون على المسجد بما يريد أن يعرفه الوافد عن الشيخ ''محمد رفعت''، على جهاز الكمبيوتر، العديد من الصور، والتسجيلات التي أحضرتها عائلة الشيخ لهم، يقومون بتوزيعها على الراغبين، وفاءًا للشيخ يقومون بذلك حسب مصطفى محمود أحد العاملين بالمسجد.
في ذلك المكان انتقلت الإذاعة بمعداتها في بدايتها، لتسجيل تلاوة قرآنية لمن افتتحها بصوته فكان أول مقريء بها، وذلك في حضور ''النحاس باشا''، ليؤذن ''محمد رفعت'' إلى الصلاة وتسجل الإذاعة الأذان عام 1934 الذي تربت أجيال على سماعه خاصة في شهر رمضان.
للمسجد راحة نفسية يجدها البعض مختلفة عن غيره، ''السيدة والحسين الناس بتروحهم عشان آل البيت، والسيدة نفيسة عشان نفسية العلم.. لكن هنا الناس بتيجي عشان الراحة يبقى أكيد في حاجة''، قال ''محمود'' معتبرًا أن للشيخ ''رفعت'' فضل في هذا بدليل معرفة الناس للمسجد بسببه وليس لأنه حاملاً للاسم أحد الأمراء أو أنه أثري.
بالقرب من المنبر، جلس أحمد إسماعيل أحد رواد المسجد، يتلو بصوت هامس ما تيسر له من القرآن الكريم، تاركًا وراءه هموم الحياة وتفاصيل يومه، فهنا يجد الراحة والسكينة منذ 30 عام، هي عمر علاقته بالمكان بعد انتقاله في طفولته من حي بولاق إلى السيدة زينب ''المسجد هنا هدوء وروحانية عشان كدا أتعلقت بيه''.
تعرف الرجل الخمسيني، على الشيخ محمد رفعت، من حكايات كبار السن من رواد المسجد '' قالوا إن الناس كانت تجيله من الفَجر تحجز مكان، عشان يكونوا قريبين منه وهما بيسمعوه''، وازداد تعلقه بالشيخ بعد الاستماع إلى القرآن الكريم بصوته ''اللي يسمعه يحس إنه مش بيقرأ وخلاص.. لا دا بيفسر الآية وهو بيقراها''.
في ذكراه، يأتي أحفاد ''رفعت'' ومحبيه إلى المسجد، يمتلىء عن آخره، يُبعث صوته من جديد في أرجاء المكان، من تسجيلات بعضها نادر، ثم تدور حلقة نقاش حول صوته ومواقفه ويلتقط كل شخص من الحضور الحديث ويسرد ما يعلمه عن الشيخ.
للمسجد محبة خاصة في قلوب رواده، فعندما أغرقته المياه الجوفية في التسعينات، اشتركوا سويا في صنع مضخة لإزاحتها، ثم تدخلت الدولة وقامت بمشروع أنهت على الأزمة، وفي السنوات الأخيرة حينما استشعروا أن المسجد في حاجة للتجديد، قرروا جمع الأموال بينهم ليصبح في أبهى صوره ''بدأنا فعلا نلم فلوس.. بس فوجئنا بوزارتي الآثار والأوقاف بيعملوا التجديدات''.
لـ 20 عاما، كان ''إسماعيل'' الحاصل على إجادة في تلاوة القرآن يُصلي بالناس في مسجد ''فاضل باشا''، يكتنفه شعور بالسعادة لأن صوته يدوي في نفس المكان الذي تلى فيه شيخ القراء ''ربنا بيصطفى الناس اللي بيبقى لها مكانة هنا زي ما اختار شيخنا رفعت.. وأنا مبسوط إن اتكتب لي نصيب في الجزئية دي''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: