أهل الطالبية.. من جاور ''القسم'' يتعب
كتبت- دعاء الفولي:
موقعه القريب من كل شيء جعله نعمة ومصدر خوف، بجانبه عمارات سكنية، مدرسة، ومحطة كبيرة للوقود، قسم شرطة الطالبية المتواجد بشارع الهرم الرئيسي أصبح وجوده عبئًا على آل القسم لحفظه من الهجمات، وعلى جيرانه الذين عانوا الأمرين، منهم من تراجع عمله بشكل كبير بسبب وجوده أمامه، بينما تعود السكان على أصوات ضرب الرصاص أو قنابل الصوت، لم يعد يسعهم عند حدوث شيء سوى الارتكان إلى المنزل والصلاة ألا يصيبهم مكروه.
قبيل موقع القسم بمسافة قليلة، يعرف القادم أنه يقترب منه، يلمح ازدحام الطريق أكثر من قبل، بعض المتاريس الموضوعة على مدخله الأمامي، عربة أمن مركزي لا تترك المكان الخارجي، وقد يزداد العدد ليصل لاثنتين أو ثلاثة، وعربة على الجهة الأخرى من الشارع تتواجد أحيانًا، بينما لم يعد أهل المنطقة يتذمرون من الازدحام.
جلس ''أسامة زيدان'' على كرسي خشبي بجانب محل صغير لبيع العصافير والأسماك، على الجهة الأخرى من الشارع في مواجهة القسم، يعمل في ذلك المكان منذ عشرين عامًا، عقب تظاهرات 30 يونيو على حد قوله، بدأت الأحداث في المنطقة بالتصاعد، إطلاق رصاص أو قنابل غاز مسيلة للدموع، لم يُفكر في الرحيل من المكان خصوصا أنه على الشارع الرئيسي ''لما بيحصل حاجة بقينا نقفل ونروح وخلاص ونيجي تاني يوم''.
المناوشات في المنطقة لا تُزعج الرجل الستيني بقدر تراجع الأمن فيها ''كل شوية يحصل حادثة سرقة هنا، مسكنا حرامي من كام يوم سلمناه للقسم قالولنا ودوه قسم العمرانية عشان انتوا تبعه''.
''القسم بقى عامل قلق في المكان''، قال ''غريب محمد'' الذي اتكأ بكوعه على كرسي ''زيدان''، يخالفه الرأي، يعمل بمحل لبيع الورد على نفس صف محل العصافير، يوم الجمعة هو حالة من النفير العام داخل القسم كما يصفها بائع الورد ''بيبقوا قاعدين في كل مكان وخارج القسم ومعاهم أسلحة عشان لو حاجة حصلت''، بعدما مرت الثورة المصرية وتم تجديد القسم عقب حرقه ظن ''محمد'' أن الحالة ستصبح أفضل، لكنها ما لبثت أن تراجعت الفترة الأخيرة ''احنا ذنبنا إيه يبقى فيه قنابل جنبنا''.
لجانب القسم، حيث أحد محطات الوقود التي يعمل بها 24 موظف، يتناوبون على العمل بين الليل والنهار، كان ''مؤمن فتحي''، يرتدي زي العمل، يرفع صوته عاليًا محييًا أحد عساكر الأمن المركزي الموجودين أمام القسم، لا يضايقه العمل بجانبه، فعلاقته بالضباط جيدة، لكنه ينزعج من ''الإرهاب'' على حد تعبيره ''نفسي الإرهاب يخلص عشان تعبنا''، خاصة مع شعوره الدائم أنه بداخل قنبلة موقوتة ''لو حاجة اترمت جنب البنزينة وانفجرت كل المنطقة هتولع''، رغم أن ذلك لم يحدث حتى الآن لكنه لم يسلم من بعض الخدوش جراء القنبلة الأخيرة التي انفجرت في العاشرة صباح أحد أيام الجمعة ''من كتر ما كانت جامدة اتنطرت أنا وزميلي من الأرض''، يعلم أنها محدودة مقارنة بمتفجرات أخرى ''أومال بقى لو كانت واحدة كبيرة كان حصل إيه؟''.
أما ''محمود حمدي''، فقد كان داخل كشك صغير بجلبابه الصعيدي، لا يعبأ بالخطر، رغم أن المسافة بينه والقسم أقل من مائة متر، يأتيه العاملون به كل فترة لشراء علب سجائر أو طعام، يعرفونه اسمًا، يداعبونه بقول ''يا بلدياتنا''، إذا جاءت سيرة ما يحدث في المنطقة يكون الرد ''محدش يقدر ييجي هنا أنا معايا سلاح بدافع بيه عن نفسي''، بلهجة سوهاجية يقولها.
الدولة والحكومة على حد قوله لن يسعفانه إذا ألمت به نائبة، خاصة أنه يملك ثلاث محلات أخرى على نفس الصف، ويسكن فوق أحدهم، ومع ذلك فوقت الثورة لم يسلم من هجوم بلطجية مسلحين على المحل وقتل ابن عمه الذي كان مكانه، ثم الاستيلاء على بعض البضاعة. عندما يتذكر ما حدث مع قريبه، تتبدل لهجته المرحة بغضب ''القسم معليهوش حراسة، يعني هما عارفين إنه مستهدف ومع ذلك سايبينه''، يلاحظ مدرعة تابعة للجيش تقف أمامه أحيانًا، وأوقات أخرى لا تتواجد ''الصبح مش أزمة أوي بس اللي يعدي بليل الساعة واحدة مبيبقاش فيه حراسة غير عسكري واحد ولا اتنين وخلاص''، واقعة أخرى رواها والد الثلاث أطفال، شاهد ليلًا ميكروباص فلتت عجلة القيادة من سائقه؛ فصدم أحد الحواجز الحديدية الخارجية للقسم ''ومع ذلك محدش جري وراه ولا جابه''، يتمنى وجود حراسة أكبر على النقطة حماية للمنطقة وأهلها ''لو أنا دافعت عن نفسي غيري مش هيعرف يدافع''.
الشارع الذي يلي القسم كان هادئًا، خاليًا من عربات الأمن، الانحراف يسارًا بعد الدخول فيه يجعل قاطنيه خلف القسم، في منزل مكون من ثلاثة طوابق بحديقة خارجية ضيقة، جلست ''عايدة حسين'' تحتسي قهوة صباحية، ظهرها للشارع، تتعاطى مع موقعها الجغرافي بطريقة عملية ''لما بيحصل حاجة مبخرجش برة خالص''، يعمل زوج السيدة الخمسينية لواء شرطة، عايشت أحداث العنف في تسعينيات القرن الماضي بحذافيرها ''كان زوجي وقتها فيه خطر كبير على حياته''، لكن الموجة الحالية من العنف تثير رعبًا أكثر في نفسها، فتحاول المحافظة على رباطة جأشها أمام أبناءها. أكثر من قنبلة هزت أرجاء المنزل ''اللي اترمت يوم الجمعة قدام القسم والقنبلة اللي اترمت عند سينما رادوبيس كأنها كانت في البيت عندي''.
''نانا عبد الغني''، التي تسكن بالعمارة المجاورة، اتخذت لها مقعدًا في الحديقة مع زوجة لواء الشرطة صديقتها. تعيش بمفردها بعد وفاة زوجها، تعودت أيضًا على الوضع ''بقينا بنسمع القنابل بنخاف بس مش زي الأول''، تلتحف السيدة الخمسينية بالذكر عند سماع دوي إطلاق الرصاص الذي تكرر أكثر من مرة، استمر الضرب أكثر من ساعة في إحدى المرات، ضعفت قواها وبدأت في البكاء، دخلت لركن قصي في شقتها واختبأت فيه حتى انتهاء الوقت، لم تفكر في الاستعانة بالجيران ''أصل الناس كلها كانت مرعوبة''، رغم ذلك لم يحاول أحدهم الشكوى، استسلموا لضريبة السكنى بجوار القسم، آملين أن يتوقف الأمر حد التعب النفسي فقط.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: