''عبده ومحمد'' خلف كل ''بوعزيزي'' يموت.. يُولد بائس جديد
كتبت- دعاء الفولي:
لم يعرفا بعضهما من قبل، لكن الظروف جمعتهما دون قصد، فى اليوم نفسه، وعلى رصيف المكان ذاته، كان الحدث الجلل؛ الإقبال على الانتحار حرقا كان قرارهما، على رصيف المجلس الذى يحمل نفحة من صفتهما ''الشعب''، كلتا المحاولتين فشلتا، فيما كان المستقر على سرير واحد لم يتبدل داخل مستشفى المنيرة.. وكأن الفارق الزمني بين 17 يناير 2011 ومثيله قبل أيام مجرد ثوانٍ، لم تُغير من قدر أمة قام أهلها بثورتين فيما لا يزال أفرادها يحلمون بقوت يوم يعفيهم من ''حرق الأبدان''.
لعل جنبات مستشفى المنيرة تحمّلت أكثر من اللازم، بعد أن جاءها ''عبده'' منذ ثلاثة أعوام، أتاها ''عبده'' آخر، مع اختلافات بسيطة، الثاني عمره ثلاثون عاما بالتمام، واسمه ''محمد سعيد''، من محافظة الإسكندرية.
الخامسة مساءً كانت قدماه تطأ ميدان التحرير؛ عالما أن ثورة قامت هنا منذ ثلاثة أعوام تقريبا، لأجل الفقراء، والذين لم تُعطيهم الدولة ما يكفيهم، بيد أنها لم تكن ثورة الثمانية عشر يوما فقط، إذ أن السنوات اللاحقة لها حملت حدثا، تعقبه مظاهرة، يليها إضراب، والدولة وسطهم كأنما على رأسها الطير، كل شيء تبدل في تلك الأعوام إلا أحوال الذين قامت الثورة لأجلهم.
''محمد'' الذي حاول الانتحار في 16 يناير 2014 _قبيل الذكرى الثالثة للثورة، كان مستعدا هذه المرة، ساعده مرضه النفسي كحال ''عبده'' الذي اُصيب به منذ عدة سنوات على اتخاذ قرار سريع، أشعل النيران ولم تمر دقائق حتى حُمل على مستشفى المنيرة.
''حروق عميقة بنسبة أربعين في المية من جسمه، وجميعها في قدميه الاثنين ويده الشمال''، كان ذلك تشخيص ''سعد الكيال''، طبيب بمستشفى المنيرة، والمعالج لحالة ''محمد''، بعدما فشلت محاولة الانتحار خلّفت النيران بالجسد آثارا عتيدة ''الجروح عميقة جدا''، لعل ذلك سببا كافيا لعدم صراخ ''محمد'' بينما كان محمولا على نقالة ''المريض مبيصرخش إلا لو كانت الجروح سطحية، لكنه فقد الإحساس في الأعصاب، لأنها تآكلت بفعل النار''، يضيف الطبيب.
استفاق من مُخدر أُعطي له كي يستريح، لم يكن يريد النوم عندما زُجّ به في المستشفى، شعر أنه مجرد وقت آخر سيقضيه بين أطباء ورجال شرطة يستجوبونه، ولن يطيّب أحد أوجاعه، مرضه النفسي ''شيزوفرينيا''، لازال يتناول علاجه –رفضنا تصويره احتراما لخصوصية المرض- لم يتفوه بحرف عندما حاول الأطباء سؤاله عما حدث، إلا كلمات قليلة ''أنا مش عايز اتكلم''، وحالة سيئة بدت على ملامحه القمحية اللون ووجهه ذو الذقن الغير منتظمة، الذي لوّح به في جهة بعيدة عنهم، ما كان وقتئذ من الأطباء إلا أن حاولوا طمأنته بأنهم لن يتسببوا في أذى له فوق الأذى.
كان ''محمد'' عاملا في دولة الأردن، ذهب لها كي يحصل على رزق أكثر خاصة بعد توقف تعليمه عند المرحلة الثانوية، لم تُسعفه الظروف؛ الكفيل الذي كان يعمل لديه قام بطرده ولم يُعطه جواز السفر، أراد حين عاد لبلده مخذولا أن يصل لأحد المسئولين، جاء اسم الفريق عبد الفتاح السيسي على مخيلته، فذهب للتحرير، كما جاء على لسان طبيب الحروق المعالج، معتقدا بذلك أنه سيُقابله، لكن شيئا لم يحدث سوى إشعاله النار في نفسه.
لا تُنبيء الحالة الصحية لـ''محمد'' بالخير ''العلاج بياخد وقت طويل.. لأنه بعد ما الجلد يتساقط، لازم نعمل له عملية ترقيع''، يزيد الأمر صعوبة أن ترقيع الجلد يؤخذ فيه عينات من القدمين، ومع قدميه المحترقتين بالكامل ستكون معضلة.
أيام سيقضيها ''محمد'' على سريره بالمستشفى، قبل أن يُحدد الأطباء ما سيحدث له ''رئيس قسم الطب النفسي شافه وأدى له علاج''، لكن تحويله لمستشفى نفسي أمرا لم يتم البَتّ فيه بعد، وعلى حد قول الدكتور ''سعد'' ''إدارة المستشفى هتنتظر وممكن نحوله لمتسشفى اختصاصي في الحروق بس عشان حالته''.
كان ذلك في 17 يناير 2011، اقترب ''عبده'' بتؤدة من الشارع، حيث مقر مجلس الشعب، حدثّه القلب بألا يفعل، وكانت نفسه تدفعه دفعا ليُتم ما جاء من أجله، خطوات قدمه لم تُبطيء، ارتعشت يداه الحاملتين للمادة المساعدة على الاشتعال، لا يمكنه التراجع الآن، ثُمّة قرارات لا يُستحب التفكير بها، هكذا قال لنبضاته المتسارعة، أطبق باليد على ''الجركن'' وبالآخرى على الثقاب، ولما آنس من روحه شجاعة كافية؛ رفع الوعاء الحامل للمادة وسكبها على نفسه، وأشعل عود ثقاب، ثم انتهى الأمر.
لم يكن شابا صغيرا، عمره ناهز الخمسين عاما، رأى في الثورة أملا جديدا، وكان قد مرّ به من مر من الحكومات والرؤساء، ولم يتغير الحال، لا يأبه ''عبده'' بهم، كما لم يأبهوا به من قبل، مجلس الشعب لم يكن وجهته من فراغ، فلرُبما هدد قوات الشرطة التي تحرسه بأنه سيحرق نفسه، في حين كانوا على شاكلة رؤسائهم فلم يستجيبوا لصوته المبحوح يناديهم بغضب.
كان ذلكقبيل الثورة بثمانية أيام، عندما أشعل ''عبده عبد المنعم''، النيران بجسده، غير مُهتم بالعاقبة، طالما أنها سُتخلْصه من هلاك دنيوي مُحتم، في الحياة لم يستطع الحصول على شيء يُرضيه، لا علاج، لا عمل ولا حقوق، كالموتى الأحياء كان يعيش. لم يعلم أنه بعد أيام معدودة سَتقوم ثورة، ليس من أجله فقط، بل لأولئك الذين حرمهم التردد من الانتحار بؤسا بسبب سوء المعيشة.
بعد محاولات بائسة لإنقاذه، تم تحويل ''عبده''، إلى قسم الحروق بمستشفى المنيرة العام، ذلك المكان الذي يستقرفيه ''محمد'' حاليا، مكث هناك عدة أيام تناول فيها العلاج الجسدي، أما الجزء النفسي، فقد كان مُدمَرا، وعلى إثر ذلك قررت إدارة المستشفى نقله لإحدى المصحات النفسية والعصبية لإكمال العلاج.
بعد الثورة، لازال ''عبده'' يتمنى عملا جيدا، لا يحتاج معه لإيجار شهري كبير، كالمبلغ الذي يضطر لدفعه على المقهى الصغير الذي يمتلكه على الطريق بين الإسماعيلية وبورسعيد، و''محمد'' لا يأمل شيئا منها سوى الحصول على جواز سفره مرة أخرى، لا يرغبان إلا بالعيش، الحرية، والعدالة الاجتماعية.
لمعرفة ومتابعة نتائج الاستفتاء على الدستور..اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: