نيويورك: قناة جوانوس الملوثة تجذب اهتمام الفنانين ورجال الاستثمار العقاري
نيويورك (د ب أ)
عندما تهب الرياح على صفحة المياه فتحركها، يكاد المشهد يبدو جميلا، حيث تلوح البقع البيضاء الصغيرة على الخلفية الزرقاء الداكنة، كما لو كانت سماء يوم صيف ملبدة بالسحب.
ولكن الرائحة المنبعثة من المياه تجعلك تتذكر على الفور إنك تنظر إلى سطح المياه الراكدة الملوثة بالزيوت في قناة جوانوس، وأن السحب البيضاء الصغيرة التي تثير إعجابك ليست سوى "رغاوى الفضلات" التي تتدفق من شبكة الصرف الصحي.
وتقول كاترينا جيرينيك الفنانة صاحبة فكرة الأعلام التي ترفرف أعلى الجسور الأربعة التي تعبر فوق القناة الملوثة بالمواد السامة التي تمر عبر حي بروكلين في نيويورك: "هذا هو المشهد الذي صنعناه ونعيش فيه".
وتعيش جيرينيك، 44 عاما، في نيويورك منذ 17 عاما، ويعتبر استوديو الفن الخاص بها واحدا من أقدم المباني الصناعية التي تقع بالقرب من القناة.
وذكرت جيرينيك: "إنني أسير أو أركب دراجتي الهوائية بالقرب من القناة كل يوم، ولذلك فإنني أشاهدها وألاحظ كم أصبحت رائحتها سيئة"، مضيفة: "لقد أصبحت مهتمة حقا بالقناة، وبدأت التقط صورها".
وتقول: "إنني التقط صور الانعكاسات على صفحة القناة، ويكون المشهد بديعا للغاية، ولكني ألاحظ عندئذ كيف أن سحب الزيوت أو رغاوي الفضلات أو أي كانت طبيعة هذه المواد تبدو كما لو كانت سماء من نوع خاص".
وشاهدت إوته زيمرمان صديقة جيرينيك من ألمانيا، والتي تمتلك متجرا يطل على القناة الصور التي التقطتها جيرينيك على موقع فيسبوك، وشعرت على الفور بسعادة غامرة. وقامت الصديقتان سويا بتنظيم معرض الأعلام، وأول مشروع فني كبير يقام في الهواء الطلق في متجر زيمرمان المطل على القناة حيث تبيع هي وزوجها بطاقات المعايدة والقمصان والكتب وغيرها من الأغراض التي صمم معظمها فنانون محليون.
ومن بين الأغراض المعروضة في المتجر قميص يحمل شعار "فريق سباحة جوانوس" وهو مزين بصورة جمجمة. وتقول زيمرمان: "لقد أصبحت هذه المنطقة مزارا سياحيا، ولذلك فإننا نريد أن نصنع متجر هدايا كلاسيكي ولكن بلمسة ساخرة".
وانتقلت زيمرمان /43 عاما/ إلى منطقة جوانوس قبل ست سنوات، وهي تقول إن "جوانوس منطقة ذات طبيعة خاصة، فالطابع المعماري للمكان يتميز بالمباني المسطحة للغاية، ولذلك فيمكنك أن تطالع المشهد أمامك لمسافة بعيدة، وهو أمر غير معتاد في مدينة نيويورك، وهي واحدة من المناطق القليلة الرائعة المتبقية نظرا لأنها تعكس السمات الصناعية المحلية ويعيش فيها كثير من الفنانين".
ويقول المؤلف جوزيف ألكسيو في كتابه "جوانوس.. القناة المثيرة للفضول في بروكلين": "بطريقة ما... تعتبر جوانوس عالما صغيرا قائما بذاته، وعدسة يمكن من خلالها أن ترى التاريخ، ولاسيما مراحل نمو منطقة بروكلين وطابعها الفريد وعلاقتها بالبيئة المحيطة بها".
وكانت جوانوس في الأصل فرعا صغيرا من نهر "إيست"، وكان السكان المحليون يعيشون في هذه المنطقة في البداية، ثم سكنها المستوطنون الهولنديون، واندلعت معارك على ضفاف القناة أثناء حرب الاستقلال (1776 – 1883)، ثم جاءت مرحلة التصنيع، واتسع الفرع الصغير وتحول إلى قناة مائية تخدم النمو الصناعي السريع في بروكلين.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تعرضت منطقة قناة جوانوس لظروف اقتصادية عصيبة، وبحلول ذلك الوقت، كانت مياهها قد تلوثت تماما وأصبحت سامة بفعل الملوثات الصناعية والصرف الصحي. واستمرت المنطقة في التدهور حيث اجتذبت أنشطة المخدرات والدعارة واستوطنتها العصابات المتناحرة، وتقول الشائعات إن عصابات المافيا كانت تتخلص من جثث ضحاياها عن طريق إلقائها في القناة.
ولكن مع صعود نجم مدينة نيويورك في تسعينيات القرن الماضي، تجدد الاهتمام بمنطقة جوانوس، وانتقل إليها الفنانون، ومن بعدهم جاء المستثمرون في مجال العقارات، ومعهم رؤية جديدة للمكان تجمع بين أصداء مدينة أمستردام وظلال مدينة فينيسيا مع لمسة سحرية تعود لعصر النهضة الصناعية.
وبمرور الوقت، أصبحت جوانوس مركزا للمقاهي الأنيقة والحانات والمتاجر، وارتفعت أسعار الإيجارات في المنطقة. وتقول زيمرمان: "لم تعد الأسعار رخيصة، ولكن المنطقة مازالت موجودة، ولا يزال الناس الذين يعيشون ويعملون في هذه المنطقة يكدحون من أجل أن يظلوا جزءا من المكان".
غير أن عملية تنظيف القناة التي يطالب بها السكان المحليون منذ عقود لم تستكمل حتى الآن. وفي عام 2010، أدرجت وكالة حماية البيئة قناة جوانوس على قائمتها الخاصة بـ"مناطق التمويل الفائق"التي تضم أقذر المناطق وأكثرها تلوثا في البلاد، وبشكل تدريجي، بدأت عملية تنظيف القناة.
ولكن مياه الصرف الصحي مازالت تصب في القناة، كما يحتوي قاعها على طبقة بسمك ثلاثة أمتار من قطران الفحم الذي يطلق عليه السكان المحليون اسم "المايونيز الأسود".
وفي عام 2015، سبح أحد النشطاء في مياه القناة الراكدة لجذب الانتباه إلى التلوث. وقال الناشط الذي يدعى كريستوفر سواين لصحيفة نيويورك تايمز آنذاك: "إنها تشبه تماما السباحة عبر حفاضة قذرة".
ولم تنزل أي من زيمرمان وجيرينيك إلى المياه مطلقا، ولكنهما تعتزمان القيام بأول رحلة بزورق الكانو على صفحة مياهها. وتقول زيمرمان: "بالتأكيد سيكون من الرائع السباحة في مياه القناة يوما ما.. ولكن مثل أي مكان في نيويورك، فإنك إذا ما جعلته لطيفا، فسوف يصبح مرتفع السعر".
وتخشي جيرينيك هي الأخرى من أن يأتي اليوم الذي لا تستطيع فيه تحمل تكلفة الإقامة في جوانوس. وتقول: "إنه وضع غريب، فعادة ما يشعر المرء بالسعادة عندما يتم تنظيف المجرى المائي الملوث بالمواد السامة، ولكننا نعيش في مدينة نيويورك، فإذا ما أصبح المكان رائعا للغاية، فلن يكون بمقدورنا تحمل تكلفة الإقامة هنا".
فيديو قد يعجبك: