لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مفارقات القدر في حياة البشر

د. أحمد عمر

مفارقات القدر في حياة البشر

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 27 فبراير 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من مفارقات القدر في حياة البشر من أهل الأدب والفكر أن يُريد الأديب أو المفكر لنفسه أمرًا، ويُخطط له، ويعمل جاهدًا لبلوغه، ثم تأخذه مُخططات وتدبير القدر لأمر مختلف تمامًا، فيشعر بالهزيمة والخسارة وخيبة الأمل، ثم تُثبت الأيام أن هزيمته وخسارته الحقيقية كانت فيما تصوره نصرًا، وأن نصره الحقيقي قد تحقق فيما تصوره هزيمة.

وقد تحققت تلك المفارقة على أوضح ما يكون في حياة الشاعر العربي أبي الطيّب المتنبي (303هـ - 354هـ)، وحياة الفيلسوف والأديب أبي حيان التوحيدي (310 - 414 هـ)؛ فكلاهما عاش في أوهام مضللة تتعلق بأهمية لعب دور سياسي والقرب من السلطة وأهل النفوذ والحكم. وكلاهما حيل بينه وبين أحلامه تلك، وعاش مغتربًا وساخطًا على قدره ومصيره.

وقد أدى بهما الفشل والاحساس بخيبة الأمل في ميدان السياسة إلى التفرغ للكتابة وانضاج موهبتهم الأدبية والفكرية، فبقيت أسمائهم ومؤلفاتهم، وذهبت رياح الأيام بحضور وأسماء رجال السلطة والسياسة في عصرهما.

في هذا المعنى يقول الراحل الدكتور إحسان عباس في كتابه "النثر الفني في القرن الرابع الهجري" عن المتنبي والتوحيدي:

"كلاهما قلق متعاظم يريد أن تُبلغه عبقريته الأدبية أقصى الدرجات في الحياة السياسية، ولما لم يجد من يُناصره في ذلك، تفجر أدبه حقداً وثورة. ومن ثم ملأ التوحيدي النصف الثاني من القرن الرابع صراخاً وعويلاً، بعدما ملأ المتنبي النصف الأول من القرن هديراً وزئيراً".

وهذا التحليل الدقيق يُعطينا مفتاحًا لشخصية المتنبي والتوحيدي، ومدخلاً مهمًا لفهم حياتهما وكتاباتهما؛ فهو يصورهما في صورة الإنسان الطموح الذي ظن أنه يملك كل مقومات النجاح ونيل المكانة السياسية المميزة والقرب من السلطة، ولكن حيل بينه وبين أحلامة وطموحه، ليتصدر المشهد دونه أشباه السياسين والأدباء.

غير أن هذا الأمر الذي بدا لهما في حياتهم فشلًا وخسارة، ودعاهما للسخط على الحياة والناس وأهل الحكم، قد أثبتت الأيام أنه كان نجاحًا ومكسبًا كبيرًا لهما وللثقافة العربية والإنسانية؛ لأنهما لو نجحا في ميدان السياسية لخسرا المجد الأدبي الأكثر حضورًا وبقاءً واستمرارية.

وهذا ما أكده الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه "مطالعات في الأدب والحياة"، عندما كتب يقول عن أبي الطيب المتنبي، وهو القول الذي ينطبق كذلك على أبي حيان التوحيدي:

"الحقيقة أن المتنبي جهل نفسه، ولم يكن صادق النظر في أمله، فأضله الأمل الكاذب عن كنه قدراته وطبيعة عظمته، وأحس في نفسه السمو والنبالة، فظن أن السمو لا يكون إلا بين المواكب، وأن النبالة لا تصلح إلا لذي تاج وسلطان وصولجان وعرش وإيوان، فطلب الرجل الملك جادًا في طلبه، وجعل الشعر آلته ريثما يبلغه، فبقيت الآلة الموقوتة، وذهبت الغاية المطلوبة.

وقد ظل يسعى طول حياته إلى شيء، وأراد الله به شيئًا آخر. فأحسن الله إليه من حيث أراد هو أن يسيء إلى نفسه، فهو اليوم أظفر ما يكون خائباً، وأخيب ما يكون ظافراً؛ ليس بملك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات".
وفصل المقال "إن كل امرئ مهيأ لما خلق له"، وعليه أن يعرف ذاته كما تقول الحكمة اليونانية الشهيرة، ويستكشف مواهبه الحقيقية، ويستثمر فيها يُثري وجوده، ويصنع مجده الذي يبقى، فلا تُضلله الأوهام والأحلام، ولا تخدعه التصورات الزائفة عن الذات، لتصبح خسارته فيما ظن أنه نصره، ويصبح نصره فيما ظن أنه خسارته.

إعلان