لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 مسالك العائشين.. الماضوية شرابا وسلواناً

د.هشام عطية عبد المقصود

مسالك العائشين.. الماضوية شرابا وسلواناً

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 20 أغسطس 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحلو للبشر بينما يخوضون مسالك الحياة، هونا حينا وعسرا حينا أن يبحثوا عن هدأة للراحة، كلما لاح في فضاءات حياتهم ما يجهدهم، وخاصة ممن قطعوا شوطا ممتدا في رحلة الأيام والسنين، ثم قد يتحول ذلك إلى اعتياد، فاستعذاب، ونوع من اجترار ماضوي بأن يصفوا زمانا أحبوه أو عاشوه أو حتى قرأوا عنه أو سمعوا به بطريقتهم المنتقاة لبيان خصوصيته وفرادته، ومع الوقت يبلورونه بشكل يجعله خارج نطاق التساؤل والتحليل، ليكون مطلقا ثم يضعونه تحت عنوان بلاغي هو "الأيام الحلوة" أو مترادفاتها.

ستجد تجليات ذلك حاضرة في انتقاء البعض تواريخ شخصية ومجتمعية، وفي أنماط حياة وأغانٍ وأفلام سينما وكتب مختارة، وتحت مظلته الممتدة وسطوة صناع حكاياته ستكبر مفرداته وتنمو تواريخه لتكون سفرا كبيرا، لا تخلو فصوله وصفحاته من امتدادات "التزويقات" لتتحلى بجدارة الدخول في ذلك الزمن الجميل.

تحت وطأة هذا التصور يتم التركيز والتوقف في منحنى الزمان على ما يرتبط عضويا بالفكرة، ومن ثم تكبير تلك النقاط "المضيئة" المتصورة والمعاد تشييدها في سياق زمني مغاير لتمنح حنينا للمجترين، فتكون ما يشبه نجوما زاهرة تضيء مساحات من فضاء ليل العائشين، وتكبر مع الوقت لتحجب ما عداها وقد عاصرها واختلط بها من وقائع وأحداث تشكل ضدا لها، وهكذا ينشأ إطار مدهش بديل لا يُظهر الخفايا والأحزان والإخفاقات في ثناياه، ويتشكل مطلق جديد تتم زرعه في أرض المطلقات الحياتية التى يحلو للبشر أن يقبعوا في كهوف جبالها، متلذذين بتناول سوائل حكاياتها شرابا سائغا مخلصا في ماضويته.

وعبر الوقت يتشكل عن فترة ما قريبة أو بعيدة في الزمان بشخوصها وأحداثها وهم زمن سرمدي سري يعرفه هؤلاء وهم كثر وحدهم، حيث كان كل شيء فيه أعذب وأجمل، يخاصم تدافع البشر الذي هو- لو يعلمون- سنة الكون عيشا واستمرارا.

هي نقطة حنين مصطنعة يجلس في رحابها المنشدون، ويقبعون فيها لا يبارحونها فيئا.

ستُعنى كثير من الأعمال الأدبية والفنية، وربما من دون تعمد ببناء جدران هذا الزمن الجميل، وستحمله عناوين كثير من الكتب وأبواب الصحف ومحتويات البرامج "كليشيه" شائعاً.

وسيتكفل البعض من دون نداء يجمعهم ومن دون اتفاق في الموعد بنثر بذوره داخل كل أسرة، فيتكون، ويحضر سالف الزمن الجميل تفاصيل خلابة، والذي سيكون تأكيد خصوصية جمالياته لا يكتمل بسوى الحديث عن غياب عناصره ومفرداته في الحياة؛ ليعمل كل ذلك على ترسيخ الأثر المراد ببناء حديقة "الزمن الجميل"؛ وحيث يتم غرس شجرها بدأب في عقول أجيال تتوالى؛ تذكيرا بأن مُضيَّ الزمان علامة لا تخطئ على جمال ما كان.

وحيث يقوم صناع الزمن الجميل بالحكي عنه كأنه شيء غامض زار الأرض ذات مرة واحدة تيقنوا منها، ثم فارقها، وترك حلم العودة قائما لا يبارح، بينما لا ينصتون مليا لصوت فيروز عذبا في كلمات سعيد عقل وألحان محمد عبد الوهاب يأبى أن يبارح مؤكدا أن "أجمل التاريخ كان غدا".

تعمل مظلة الزمن الجميل هذه على أن تقلل كثيرا من مدى التفاعل مع الحياة- وكما تتجدد تياراتها- لتثبت الرؤية عند نقطة وحيدة من الزمان، فتمتد سطوتها نحو تشكيل الحياة، صانعة حيزا يتسع من الإقصاء، وتقليل أوجه السعى تطويرا لتنغلق على فكرة أو تصور وحيد للكون، ثم لتكون كل حياة بعد تلك النقطة المتصورة هي مجرد زمان عابر وأيام و"تعدى"، بينما تَضوي الحقيقة خارج راحة اليد المستكينة لتقول إنه لم يوجد ذلك الزمن الجميل مكتملاً مطلقاً في تصوره هكذا تماما.

ولكن هل يمكن القول إن تكريس ذلك الزمن بصيغ واعية أو غير واعية هو مضر بالضرورة بالمستقبل، وإنه يعبر عن نوع من مقاومة تبعات خوض الحياة إبداعا وإضافة وتحديا لما تأتي به وتفرضه؟!

يصنع "الزمن الجميل" أسطورته ويمضي ويقوم مؤيدوه الحصريون بإدخال أجيال أخرى بدأب إلى ساحة تصديقه، فتحمل القصص والحكايات قبسا منه كما تحمل القصائد والأغاني صيغته تكرارا، فتنشأ أغاني الزمن الجميل، وأفلام الزمن الجميل، ونجوم الزمن الجميل، وكأن الحياة تسري نحو نقصان وتصحر وفناء.

لم يكن الزمن يوما سوى ما عرفه الكل، تدور داخله في توالٍ محكم الطيبات والسيئات من الأشياء، تحملها الأيام وتمضي معها، وربما يكون "تعب الحياة" لدى البعض عمرا أو يأساً أو مللاً- مؤشراً على كثافة استدعاء زمن جميل يخلو فيه كل العالم من سوى ما يرغبون، ولكن علينا أن نتذكر أنه وفى بعض من أوائل ذلك الزمن الأول البعيد "الجميل"، وبينما كان العالم براحاً ممتداً كاملا أمام قابيل وهابيل، وفي طور بدء الخلق - تمت الجريمة الأبشع التي تؤرخ لبدء التدافع والشر في العالم.

إعلان