إعلان

العدالة الاقتصادية في صناعة الدواجن المصرية

إياد حرفوش

العدالة الاقتصادية في صناعة الدواجن المصرية

د. إياد حرفوش
07:57 م الخميس 17 يونيو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

إن كانت "العدالة الاجتماعية" كمفهوم ومصطلح شائعةً على ألسنة النخب والجماهير في مجتمعنا لأكثر من نصف قرن، فإحدى ركائزها البنيوية تكاد تكون غائبة مفهومًا ومصطلحًا إلا في صفوف الأكاديميين!، أعني هنا "العدالة الاقتصادية"(Economic Justice). تعرف العدالة الاقتصادية بكونها "مجموعة من القواعد التي ترتكز عليها البنية التحتية للاقتصاد، لخلق بيئة من تكافؤ الفرص الاقتصادية، ويتمكن جميع الأفراد من تحقيق حياة كريمة ومنتجة وخلاقة". بمنظور علم الاقتصاد؛ لو كانت العدالة الاجتماعية غاية نهائية، فالطريق نحوها يمر بالضرورة عبر العدالة الاقتصادية، وتهتم العدالة الاقتصادية بتكافؤ الجهد الإنتاجي مع العائد المادي عليه، وإتاحة الفرص الاستثمارية لرؤوس الأموال الصغيرة ومتناهية الصغر، وخلق فرص عمل لطيف واسع من الكوادر الماهرة ومحدودة المهارة.

قبل خمسة عشر عامًا، كان أكثر ما أثار اهتمامي في صناعة الدواجن المصرية أنها تجمع بين كونها صناعة متطورة وعادلة اقتصاديًا في آن معًا! فأما تطورها فمفهوم؛ فلدينا بنية تحتية تحقق الاكتفاء الذاتي وفائضًا للتصدير ببعض القطاعات، وكثير من منتجينا يحققون معدلات تحويل ومعايير أداء تماثل أقرانهم في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة، بشهادة شركات السلالات العالمية ذاتها. تلك دلالات التطور، فما دلالات العدالة؟

العدالة الاقتصادية في الإنتاج الداجني المصري

هناك صناعات كصناعة الحديد والصلب، يصعب فيها على صغار المنتجين منافسة كبار المنتجين؛ لأن التطبيق الحدي لقاعدة اقتصاديات الحجم(Economy of Scale) ، يؤدي لفشل المنتج الصغير في تقديم السلعة بسعر ينافس المنتج الكبير. في صناعة الدواجن بالمقابل يتمكن صغار المربين من المنافسة أمام كيانات عملاقة؛ لأن آليات الإنتاج تجعل قاعدة اقتصاديات الحجم أقل تأثيرًا، وإن بقيت مؤثرة بطبيعة الحال. لهذا تستوعب تربية التسمين سنويا المئات من أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة ومتناهية الصغر كلاعبين جدد!.

هناك صناعات لا يتمكن فيها منتجو المرحلة الواحدة من منافسة منتجي المراحل المتعددة، بحكم قاعدة اقتصاديات المجال (Economy of Scope)، أما في صناعة الدواجن، فلا تتجاوز الحصة السوقية لمنتجي المراحل المتعددة (جدود، أمهات، وتسمين) 30% من دجاج التسمين على سبيل المثال.

يستوعب الإنتاج الداجني طيفا واسعا من مستويات المهارة والتأهيل، خلافًا لصناعات أخرى كالغزل والنسيج وغيرها تقتضي مستويات أعلى نسبيا من المهارات اليدوية. والدخل الشهري للعامل في عنبر التسمين أو مصنع العلف لا يقل عن 2500-3000 جنيه لمحدودي الخبرة والمهارة. وهو دخل معقول نسبيا لو قيس بالفرص البديلة لهذا المستوى من المهارة والخبرات.

صناعة كثيفة العمالة، فعنبر التسمين المفتوح وغير المميكن الذي ينتج عشرة آلاف طائر في الدورة (500-600 ألف جنيه عائد البيع) يحتاج إلى ثلاثة عمال مقسمين على ورديتين. أي أن معامل الإنتاجية للفرد العامل بحدود 166-200 ألف جنيه!، بهذه الخصائص استوعبت صناعة الدواجن عددًا مؤثرًا من العمالة العائدة من الخليج العربي وليبيا، وتلك التي تركت مجال السياحة في أوقات تباطؤها النسبي.

تمثل التربية المنزلية نشاطًا جانبيًا للأسرة الريفية، وبعض الأسر الحضرية وتحت الحضرية. إذ تمثل دخلًا دوريًا مضافًا يقلل من شظف العيش على أسر تقع معظمها تحت خط الفقر، وهو 875 جنيهًا للفرد في 2020م، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

خصوصية صناعة الدواجن المصرية

هل صناعة الدواجن في مختلف الدول والمجتمعات عادلة اقتصاديًا؟، هناك بون شاسع في هذا الأمر، وفقًا للظروف المجتمعية والإنتاجية لكل دولة. فلو نظرنا لصناعة الدواجن السعودية على سبيل المثال سنجدها صناعة تكاملية مركزة في عدد محدود من كبار المنتجين، ومثلها -وإن كانت بدرجة أقل- صناعة الدواجن الأردنية. لهذا فسمة العدالة الاقتصادية بهذا المستوى هي سمة تتفرد بها صناعة الدواجن المصرية، ربما لأن تربية الدواجن أصبحت بمرور القرون مكونًا ثقافيًا في الريف المصري!، حيث بدأ تدجين الطيور المنزلية في مصر القديمة بعهد الدولة الوسطى حوالي عام 2100 ق.م.، وبدأت تربية الدجاج تحديدًا بعهد الدولة البطلمية قرابة 305 ق.م.، وتطورت التربية المنزلية لنشاط اقتصادي مهم! والأدلة على هذا كثيرة:

قرابة 400 ق.م. ابتكر المصري القديم أفران تفريخ البيض، والتي وصفها "أرسطو طاليس" بالابتكار الخارق للعادة. هذه الأفران تدل على توجه إنتاجي تجاوز منذ القدم تلبية احتياجات الأسرة، وتحول إلى نشاط اقتصادي.

في كتاب "مصر: وصف الأرض والبشر والإنتاج" والصادر في 1839م، إشارة إلى عوائد ضريبية كبيرة جنتها الدولة من ضرائب على الإنتاج الداجني!.

في تقرير القنصلية الأمريكية في عام 1895م إشارة أخرى للإنتاج الداجني في مصر نشاطًا اقتصاديًا مؤثرًا.

هكذا، ووفقًا لعلم الأنثروبولوجيا الاقتصادية (Economic Anthropology)، تحولت تربية الدواجن إلى مكون ثقافي في المجتمع المصري، وهو ما شكل علاقات الإنتاج، وحافظ على الإنتاج الداجني في صورته الراهنة والتي نراها عادلة اقتصاديًا!.

تجاوز الأمن الغذائي إلى الأمن الاقتصادي!.

يرتكز الأمن الاقتصادي (Economic Security) للمجتمع، وفقًا للمفوضية الدولية للصليب الأحمر على خمس ركائز أساسية يطلق عليها مقومات المعيشة الرئيسية (key livelihood outcomes)، وهي:

الأمن الغذائي، ومناسبة ما يستهلكه السكان من غذاء لسد حاجاتهم الغذائية.

إنتاج الغذاء: نسبة ما ننتجه لمجمل ما نستهلكه.

الدخل الشخصي وقدرته على سد حاجات المعيشة.

ظروف المعيشة، ومناسبتها للحياة الكريمة.

القدرات التكافلية لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

وبنظرة منصفة للدور الذي تقوم به صناعة الدواجن في المجتمع المصري، نجدها مؤثرة بصورة مباشرة وفعالة في ثلاثة مقومات من المقومات الخمسة! لهذا، لا نكون منصفين لو وصفناها بأنها صناعة أمن غذائي، فهي بالمفهوم الأشمل إحدى أهم صناعات الأمن الاقتصادي في مصر!، وبهذا المفهوم ينبغي أن تتعامل معها مؤسسات الدولة المختلفة!، وهكذا يجب أن نراها، ليس لأننا نحبها أو ننتمي إليها، ولكن لأننا أهل منطقٍ ودليل، وحيثما مال الدليل نميل!!.

إعلان