إعلان

«كاتيوشا».. طعنة العاطفة

د. ياسر ثابت

«كاتيوشا».. طعنة العاطفة

د. ياسر ثابت
07:39 م السبت 11 ديسمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

هذه رواية كُتِبتْ على حافة الهاوية وبعد الانهيار.

بيدين مجروحتين، كتب وحيد الطويلة روايته «كاتيوشا» (دار بتانة، القاهرة، 2021)، التي ارتفع دخانها خيوطًا متموّجة، وصاغ عملًا روائيًا مكتوبًا تحت أنقاض علاقة زواج آيلة للانهيار. ها هو ذا يلملم أجزاءها المتشظية، ويصوغ فصولها من قطع الخراب والنهاية، كي تأتي في إهاب وبإيقاع المأساة.

«أحب واحدة غيرك» (ص 9).

رصاصة أولى لم تخطئ هدفها؛ إذ تصيب الزوجة على الفور.

«قالها بتصميم واضح، ضغط على كل حرف، ليتأكد أنها وصلتها،، وأنهما عند خط النهاية، عند مفترق يأخذ كل واحدٍ منهما في طريق مختلف. وهي كمن داست على لغم» (ص 9).

إنها طعنة العاطفة.

زوج يصعق زوجته الذاهبة معه إلى المطار لتودعه وهو عائد إلى دبي لتقديم الاستقالة وتسليم المتعلقات، قبل العودة للاستقرار في القاهرة.

«أحبُّ صديقتكِ.

«نطق بها دفعة واحدة، قالها بوجهٍ صلد.

«صفعها بها، بجملةٍ ثانية على وجهها، أحسّتها في قلبها كرمح» (ص 11).

تُصعَق الزوجة بالخبر.

«كيف استطاع أن ينطقها!

«أدار وجهه للأمام وتركني وحدي في ساحة المعركة، أحرقَ كل شيء فيها بجملة يتيمة، حقنَ لي الكارثة في جرعة واحدة، فقدتُ النطق، لم يبق لي إلا أن أتحسس روحي، أجدها ممتلئة بالفجوات، كأنني أنا من وضعتُ قدمي قصدًا على اللغم وفجّرني لألف قطعة، لا أعرف كيف سأجمعها الآن ولا إن كنتُ سأجدها» (ص 13).

يقع حادثٌ مفصلي في هذه اللحظة يهز الأجساد والقلوب.

«الآن لا أتذكرُ ماذا حدث بالضبط، كل ما أتذكره أنني انطلقت كعاصفة، اختلعته من مقعده، كان بدون حزام الأمان، لا أعرف كم من شيطانٍ تلبّسني...» (ص 14).

«لا أتذكر كيف تعاركنا، انقلبت السيارة على ظهرها مرتين. اعتدلتُ حين لامستُ إفريز الشارع، لا أدري كيف فككتُ الحزام، فقط سمعتُ تكّة ما زالت تطنُّ في رأسي، كان رأسه مرميًا على مقود السيارة، والدمّ ينفجر لا أعرف من أين!» (ص 14).

تخرج الزوجة ناجية فيما يُنقل إلى المشفى ويبقى زمنًا في غيبوبة، وتُروى القصة في هذا الزمن لتنتهي بتبادل دور الغيبوبة بينهما، بعد حادث سيارة آخر تتعرضُ له الزوجة. «المؤسف أن السيارة انقلبت أربع مرات بعدد من شكّتْ فيهن، ولا يمكن أن تعرف إن كان هذا صدفة أم علامة على شيء آخر. وقعت في الغيبوبة، نامت هي وصحا هو، تبادلا الأدوار، كأنها ترد الدين لـ«»رشيد أو تريده أن يسدد دينًا مثلها» (209- 210).

الغيرة تيمة القصة وقلبها النابض.

الزوجة المخدوعة «مشيرة»، تشعر بالنار تشتعل تحت قدميها، وتشتعل معها مشاعر غيرة وخيبة وتمزق وخذلان حارقة، حتى أنها بعد الحادث تترجم مشاعرها بتناقضٍ فظ.

«ممزقة، أربِّتُ عليه بيد فتقرصني يدي الأخرى، أدعو بجملة وألعنه بأخرى. الخوف يأكلني عليه، علينا، أحبُّه وألعنُ صاحبته» (ص 17).

تستعرض «مشيرة» فصول حياتها مع الزوج «رشيد»، الذي لا نكاد نعلم له مواصفات، إلا أنه «روائي شهير وملول، لا يستطيع العيش في الخليج، لم يكتب مئة صفحة في خلال ثلاث سنوات، ضجر طول الوقت من تعسّر الولادة، وحتى حين يلد، يلد مولودًا ناقصًا مشوهًا ثم يرمي حبل السُرّة في وجهها، هي من أتت به إلى هنا وأفقدته حبل الكتابة الطويل في مصر» (ص 9).

الزوج ممددٌ على السرير في غيبوبته، تحجبه الخراطيم التي وضعوها في كل قطعةٍ من جسده، والزوجة التي ترتع في أبهاء الحطام والاقتلاع وانكسار الآلام، حائرة بين القلق عليه ومحاولة حل لغز يكاد يقتلها: من هي؟ ما اسم الصديقة التي أحبها الزوج وأراد أن يتركها لأجلها؟

«من التي نامت تحت جلدي واحتضنتكَ من لفي، من هي، هل رأيتُها؟ هل خدعتني المحبة لهذه الدرجة» (ص 33).

«قُم من رقدتك وأجبني: هل دخلتْ بيتي، هل أكلتْ عندنا؟» (ص 34).

تتبدى مهارة الروائي في إجادة فن صناعة التوتر وعزف درامية تيمة الغيرة تدفع إلى جحيم الشك.

في فترة العلاج الطويلة، تتساءل «مشيرة»: «هل هي وعكة الرجل حين يبلغ الخمسين، حين يبحث عن واحدة وأخرى ليؤكد أنه ما زال في الخدمة، قادرًاعلى الصيد بغمزة، مرغوبًا مثله مثل النساء، يشحن بطارياته ولو بنزوة؟

«ربما. الخمسون مأزق الجميع» (ص36).

في دائرة الشك، تنبش «مشيرة» في ذاكرتها، بحثًا عن حبيبة زوجها. «كل الخيوط تذهب وتعود عند واحدة، كل صديقاتي متهمات أمامي» (ص 91).

تحكي لنا «مشيرة» حكاية انتقام صديقتها «أسماء» من زوجها الخائن مع جارتها؛ إذ انتقمت بالطريقة نفسها وعلى سرير الزوجية أيضًا. ربما كانت «أسماء» هي المعادل الموضوعي لـ«مشيرة» بطريقةٍ أو بأخرى. أما وصف «أسماء» فهو بديع. «شهية بصوتٍ شهي وسحر يجلب السمك من الماء ولا يرى أحدٌ آلة الصيد، راحت تقول إن الحياة مثل كرة القدم، لا يمكنك أن تمنع الآخرين من تسجيل الأهداف، لكن يمكنك أن تحرزها أنت أيضًا» (ص 68).

تقول «مشيرة»: «أنت تكتب كلّ رواية بلغة مختلفة عن سابقاتها، كأنك لست الكاتب نفسه» (190).

وحيد الطويلة روائي ماهر، حبّاك ونسّاج، وكذلك حكواتي. «الشفوية» ثوب يطرّز عليه وبإبرته، فهو ابن بيئة حبلى بثروة من العادات والتقاليد والمرويات. وهو يجيد بالفعل ممارسة حيلٍ تجريبية خلاقة تنهض على أعمدة بنية الثنائيات والانشطار والتشظي.

هذه المرة يرسم وحيد الطويلة بانوراما مجتمع جديد تضطرم فيه العواطف الفردية، ويتقلب في عصف حوادث جسام، كما يقدِّم لنا مشاهد فُرجة طريفة، مصدرها نوعية شخصياته، وميله لكتابة السيناريو حيث مقاطع كثيرة تنجم عنها إطالات واسترجاعات ووقفات، بعدسة الواقع الشائك والمشاعر المرتبكة.

من ناحية ثانية، نلاحظ كثرة التعبير المجازي، حيث ترى مقاطع أشبه بالشعر أو بصياغته، تتفوق على الشخصية وتصبح أداة لتعميق الحكاية واللحظة الشعورية. كما يتقن الروائي استخدام لعبة الطي، أي تضمين قصة داخل قصة، يقع فيها تعدد مواقع السرد والسارد، من شخصية لأخرى، ومن محفل إلى نقيضه، ما يصنع شبكة متاهة يكثفها الوصف.

تكثيف اللحظة والمشاعر حاضرٌ بقوة في هذه الرواية، بينما غابة التفاصيل الدقيقة في صفحات هذه الرواية تبدو أحيانًا كما لو أنها وقائع وعناصر لا يرقى إليها الشك، مع أنها الشك ذاته.

نرى الطويلة يجمع خلاصة تجربة كتابة روائية امتدت عدة عقود، وأثمرت نصوصًا تركت بصمتها في متن الرواية المصرية شكلًا ومضمونًا، وانتزعت رقعةً في خارطة الرواية العربية الواسعة، خصوصًا المنفتحة على عوالم منزوية وبأدوات مبتدعة.

وهو يتناول التحولات التي تطاول الإنسان والمكان والزمان، من خلال الأحداث الدائرة، في مجموعة من الدوائر الصغرى المتداخلة.

يضع وحيد الطويلة روايته في ستة عشر فصلًا، تشغل 214 صفحة. استطاع بحِرفية واضحة أن يُجنِّب روايته أعطاب الطول وأعراضه، من ترهل وتكرار ونُبُو وقلقلة ورتابة وغيرها. ولعل إفراده حيزًا واسعًا للوصف على أنواعه في الرواية ناهيك بطولها، جعل الإيقاع الروائي بطيئًا وهو ما يجانس حالة الترقب والانتظار في المشفى، والشعور بأن الخيوط تفلت من يد الزوجة بسبب صدمة المصارحة والحادث الذي تسبب في إصابة الزوج.

تتعدد أنماط الكلام في الرواية، وتتراوح بين السردي والحواري والوصفي والوجداني والإيعازي وغيرها، بنسب مختلفة بين نمط وآخر. وتتجاور الأنماط داخل الفصل الواحد، وهو يتنقل بين ضمائر السرد، ويعدل بالضمير عما وُضع له في الأصل مستخدمًا ضمير المخاطب في معرض المتكلم والغائب، على سبيل المثال، فيخاطب الراوي نفسه أو الغائب عنه، في خطوة لا تخلو من دلالات بلاغية معينة. وهو يكسر نمطية السرد بأنواع كتابية أخرى كالمقالة والقصيدة والأغنية، ما يجعل من النص عالمًا موازيًا للعالم المرجعي بتنوعه وتعقيداته الكثيرة. وهو يسند عملية الروي إلى الشخوص المختلفة بوتيرة فصل واحد للشخصية في الحد الأدنى. ويترك للراوي العليم مساحات ضئيلة تكتفي بالربط والتنسيق، على أنه قد يجتمع أكثر من راوٍ واحد في الفصل الواحد.

«كاتيوشا» هي من أعماله الوازنة فنًا وامتلاءً بالدلالة والإيحاء، وعلى القارئ أن يجِدّ في ملاحقتها. فمحكياتُها كثيرة، وشخصياتُها واقعية ورمزية، وأمثلتُها أيقونية، مليئة بالمغامرات التي يختلط فيها الألم باللذة. وهو يحافظ دائمًا على النسق، في الجملة، الإيقاع، النظرة والفكرة والرؤية، بموهبة روائي يكتب بحذق ويعرف ويتقن عمله.

هكذا اختار الطويلة أن يكون لاعبًا بالسرد، وذا بصيرة في الحياة. يطل علينا عبر روايته الأخيرة مُرسِّخًا ومُوسِّعًا لخُطى سابقةٍ له بذكاء حكواتي متمكن. يقول لنا إن الحياة رهان أو لعبة يكتنفها الغموض.

وهذه اللعبة تستحق القراءة والتأمل.

إعلان