إعلان

في مديح العزلة

د. أحمد عمر

في مديح العزلة

د. أحمد عبدالعال عمر
10:21 م الأحد 26 يوليو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إن الاستغراق الدائم في متاهة الحياة اليومية والأحداث الجارية وحضور الآخرين - لا ينتج علمًا ولا إبداعًا أصيلًا، ولا يُضيف جديدًا، ولا يجعل الإنسان في أغلب الأحيان سعيدًا؛ ولهذا صار اختراع العزلة في ظل صخب الحياة المعاصرة وتشابكها ضرورة حياة، وحقا إنسانيا أصيلا يجب على الإنسان أن يمارسه من وقت لآخر حتى لا يُهدر حياته ووجوده الشخصي في صخب حياة ووجود الآخرين.

وأغلب المبدعين والشخصيات العظيمة في تاريخ الإنسانية اخترعوا لأنفسهم تلك العزلة، ليعيدوا اكتشاف ذواتهم وأعماقهم، وترتيب اختياراتهم وأولوياتهم في الحياة من جانب، أو إنجاز مشروع مؤجل وعيش الحياة بهدوء كما يحبون مع من يحبون من جانب آخر.

وفي هذا المعنى قال شاعر الإسكندرية الشهير قسطنطين كفافيس: "إن لم يكن بإمكانك أن تصنع حياتك كما تشاء، فعلى الأقل حاول أن تفعل ذلك، فلا تقلل من شأنها بكثرة الاحتكاك بالناس، وبالإفراط في حركاتك وكلماتك. لا تقلل من قدراتها بالتطواف هنا وهناك في زحمة العلاقات والمقابلات اليومية الحمقاء".

والعزلة التي تحدث عنها كفافيس هنا هي عزلة إيجابية مثمرة، لا بد أن يصنعها الإنسان لنفسه لتحقيق الاستشفاء الذاتي من أعباء الحياة اليومية، وعبث الأحداث الجارية، وصخب وتفاهات الحياة والبشر.

وهي شبيهة بالعزلة التي تحدث عنها الكاتب الأمريكي الشهير "بول أوستر" في كتابه "اختراع العزلة"، ووجدها وسيلة مهمة لتحقيق الصفاء العقلي، وفضاءً للكتابة، ومنبعًا للسعادة.

وهي أيضًا شبيهة بالوحدة التي دعت إلى البحث عنها وصُنعها الكاتبة الفرنسية "مارغريت دوراس" في كتابها "أن تكتب" عندما قالت: "نحن لا نجد الوحدة، وإنما نصنعها. وأنا صنعتها لأنني قررت أن هذا المكان هو الأليق بي لأكون وحيدة من أجل كتابة كتبي".

وفي ظني أن تلك العزلة التي يجب على الإنسان اختراعها وممارستها من وقت لآخر في حياته - هي عزلة مؤقتة وليست اعتزالًا للناس والحياة، كما يفعل الصوفية والزهاد والرهبان.

هي استراحة محارب من المعارك المفروضة على الإنسان في الخارج، والتي تستهلك وجوده وحياته، وأبسطها معركة العمل المتواصل لطلب الرزق وتسديد الالتزامات المالية.

وهي كذلك عزلة إيجابية يعود الإنسان بعدها لحياته وعمله وهو أكثر تحققًا، وفهمًا لذاته ولأهداف ومعنى حياته؛ ليصبح مُحصنًا من الداخل ضد تفاهات البشر ومعاركهم الصفرية، وكل أشكال الهدر والاستنزاف اليومية، ويهتم فقط بما يبقى ويسعده، ويدعم طُمأنيته الداخلية، ويُعطي لحياته معنى ولوجوده قيمة.

إعلان

إعلان

إعلان