إعلان

مفيد فوزي.. المُباغت الأنيق الذي عاش عمره يتعلم وقال الحمد لله

د. أمــل الجمل

مفيد فوزي.. المُباغت الأنيق الذي عاش عمره يتعلم وقال الحمد لله

د. أمل الجمل
07:00 م الأحد 21 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


«يا أخي إنت عليك أسئلة غريبة جدا، وتعبيرات غريبة جدا».
برقة شديدة ورجاء مهذب يأتينا صوت من خارج الكادر: «معلش.. بأستأذنك أقول كل اللي في قلبي».
«عاشق مهزوم؟! عاشق مهزوم إيه بس يا مفيد؟».
«طيب.. أخليني مباشر: إيه اللي بيفشل الحب في حياة فؤاد المهندس؟! فيأتي الرد بحماس طفولي وتأكيد من دون تردد: الأنانية.. علشان ينجح الحب لازم التفاني في الإخلاص.. مفيش هو وهي.. الاتنين شخص واحد.. الزواج بداية لحب عظيم، وليس كما يدّعي البعض أن الحب نهاية الزواج».
ذلك مقطع من حوار إنساني بديع، يمتد على مدار أكثر من الساعة يُجريه المحاور والكاتب الصحفي القدير مفيد فوزي مع الكوميديان والفنان المصري فؤاد المهندس الذي يندر أن يجود الزمان بمثله.
جاء الحوار - الذي مضت عليه سنوات طويلة - مشحوناً بالدفء والصدق، والعمق، والمباغتة أحياناً. لم يتوقف فيه المحاور عند حدود رأى فؤاد المهندس في نفسه، ولكنه التقى بعدد آخر من محيطه ليعرف آراءهم فيه، وفي مقدمتهم أخته الإذاعية القديرة صفية المهندس، وصديق عمره ورفيق دربه عبد المنعم مدبولي، ومحمد عوض، ثم ولداه الذي يُفاجئنا أحدهما بأنه يناديه بـ«الأستاذ» وليس بابا، وإن كان هذا لا يقلل أبداً من علاقتهما.

فروقات
هذا لا يقتصر فقط على لقائه بفؤاد المهندس، فهل يمكن أن ننسى حواره مع أحمد زكي؟! وغيرهما كُثر، فهناك حوارات شيقة وغاية في الإمتاع، مثل أمينة رزق، مع فريد شوقي، محمود المليجي، وكمال الشيخ، مع نجيب محفوظ، ومحمد عبد الوهاب، مع يوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، ويحيى حقي، وآخرين.
إذا بدأت مشاهدة برنامج حواري مع مفيد فوزي، تأكد أنك سوف تُكمله حتى النهاية، وربما ستبحث عن حوارات أخرى له، مهما يكن الشخص الجالس على الجانب الآخر. سواء كان مفيد مذيعاً أو ضيفاً مع أحد مذيعي هذه الأيام، لكن المتلقي سيُدرك المسافة الكبيرة بين جيلين، وبين عمقين، وبين زمنين.
مفيد فوزي من جيل لم يكن يمتلك الفرص العديدة المتاحة للأجيال المعاصرة، لم يكن متاحاً في زمنه الإنترنت، ولا الفيضان السهل للمعلومات، لكنه كان يُسلح نفسه بالمعلومات بطرق شتى، كان عندما يختار شخصية لمحاورتها يبحث عن أقرب الناس إليها، وأكثرهم حباً لها ويزورها ويتحدث معها، كذلك ينقب في آراء مَنْ ينتقدونها، حتى يُكون صورة شبه مكتملة ثم يذهب لبدء الحوار الذي يخرج ليس كمثله حوار أبداً.
مثلاً؛ يعترف بأنه ليس له انتماءات كروية، بأنه كان ينحاز للنادي الذي يحتاج للاحتضان، ولذلك عندما أراد إجراء حوار مع فاروق جعفر ذهب لزيارة نجيب المستكاوي وسجل معه أربع ساعات عن فاروق جعفر، وكأنه يقوم بمذاكرة الشخصية ويستعد لها.

المحاور الرافض لوصف المذيع
لذلك تكون الحوارات التي يقوم بها دائما أكثر إمتاعاً وأكثر بهجة، وأكثر عمقاً، لأن الحوار يشبه العزف ومحاورة الآلات الموسيقية لبعضها البعض، رغم أنها حوارات لا تهتم ببهرجة الصورة، ولا فخامة الديكور، ولا درامية الإضاءة، أو حركات الكاميرا المتنوعة المبهرة، فقط في الأغلب سيكون الحوار في أحد أركان البيت، وقوفاً أمام صورة، أو جلوساً على المقاعد بالمسرح، أو سيراً في حديقة الحيوان، لكنها تشي بعمق وحميمية العلاقة بين الطرفين رغم المشاكسة أو الغضب أحيانا.
اشتهر مفيد فوزي بجملته «أنا محاور ولست مذيعا» جملة كانت تستفز البعض لما تشي به من تعالٍ، لكنه شعور سرعان ما يزول بمجرد أن يبدأ اللقاء، ففي تلك الحوارات سيكون مستمعاً أكثر منه متحدثاً، لن يهتم بالظهور أمام الكاميرا كثيراً، لكننا لن ننسى وجوده أبداً، سيكتفي بإلقاء الأسئلة المباغتة أو المشاكسة أو الإنسانية لكنها جميعاً ستحفر عميقاً في الشخصية التي يحاورها فيقربنا منها أكثر وأكثر.
عندما تتأمل أسلوب مفيد فوزي ستجده لا يترك فرصة إلا ويسأل، ستجده فجأة يُقاطع ضيفه أحياناً بسؤال استطرادي، ثم يتركه يواصل إجابته، أو يقول له: «اتفضل كمل إجابتك».

لا شك أن مفيد فوزي فنان وإنسان يتمتع بالكاريزما التي دعمها بثقافته وذكائه وتذوقه الجمالي وموهبته في الكتابة والشعر. إنه متحدث يجذب الكاميرا إليه بأفكاره، يتحدث بصراحة، حتى إنه أحياناً يشير إلى ملامحه بسخرية، فهل يعي مفيد فوزي أننا حين نسمعه نراه جميلاً من فيض حديثه الأنيق المعجون بالصدق الإنساني، ومن براعة اختياره للكلمات التي لا يتجاوز فيها أبداً حدود الأدب واللياقة والشياكة، بأسلوبه البعيد عن الغوغائية والتقليدية والشعوبية، بأفكاره التي يطرحها بشكل فيه تحديد واضح، ودقة بالغة.

موت سعاد.. وليس مقتلها
يختار مفيد فوزي كلمات لها جرس موسيقي مُحبب للنفس، كلمات مُحملة بمعاني عميقة، وجماليات لها دلالة مكثفة. قد يراه البعض إنساناً موضوعياً - وقد يختلف معه البعض ويراه بخلاف ذلك - لكني شخصياً في الآراء التي طرحها وسمعتها منه وجدته بالغ الموضوعية - أو يُحاول جاهداً - ولا ينحاز للتقليدي أبدي، وهناك نماذج عديدة منها وفاة السندريلا في لندن.

إنه يُفكر خارج الصندوق، ويغرد خارج السرب، فينفي تفكير المؤامرة في قضية موتها، الذي استغله آخرون فسعوا حثيثا لصناعة حلقات متلفزة بغرض الإثارة والجذب الإعلامي وتحقيق نسب مشاهدة. لكن مفيد فوزي يُؤكد أن سعاد لم تُقتل، ولم تنتحر، وأن السبب في موتها ونهايتها هو أدوية الاكتئاب كما حدث مع صلاح جاهين، وأنها لم تسقط من الشرفة كما زعموا، وأنها سقطت في الشارع أثناء سيرها.
ثم يُوثق شهادته بحديث أخيها غير الشقيق الذي تسلم جثتها من المشرحة، والذي أخبره بأنها كانت سليمة، ولم يكن بها كسور.. وأنها لو كانت سقطت من كل تلك الأدوار المرتفعة لتهشمت عظامها خصوصا أن وزنها كان قد أصبح زائداً بفعل الاكتئاب، ثم يختتم حديثه بأن «سعاد حسني قطعة من تاريخ مصر، لكنها بعد أن خرجت منها صارت مهلهلة».

عن أيقونة العندليب.. والغوغائية
ومثلما اعترف بالخطأ في واقعة «الكركم» ببساطة شديدة - فالاعتراف بالخطأ في رأيه رجولة - يعترف أيضاً بفضل الآخرين عليه، ومنهم آمال فهمي، وصفية المهندس، وعبد الحليم حافظ الذي يدين له بإنقاذه عندما تم رفته من المجلة بسبب مقال كتبه، الذي اصطحبه، وذهب معه إلى صلاح نصر ليوضح حقيقة المقال.

كان مفيد فوزي تربطه علاقة صداقة قوية بعبد الحليم، وكان يدين له بالفضل، لكن هذا لم يمنعه من أن ينحاز لسعاد حسني وأن يكون موضوعياً حين تُثار قصة حبهما وانفصالهما، وسيكون أكثر موضوعية حين يُقيَّم عبد الحليم حافظ فنياً.

فهو لا ينكر أبداً أن عبد الحليم حافظ كان أيقونة عصره، وأنه وأبناء جيله وأجيالا لاحقة تعلموا الحب من أغاني عبد الحليم، مع ذلك حين يُحلل أداء العندليب ونجاحه يقول: «كان يمتلك صوتاً متواضعاً، ذهناً ذكياً، علاقات اجتماعية عريضة، وتذوقا جماليا».

يعترف المحاور المباغت الأنيق بأنه تعلم من الكثيرين، مثلما تعلم من المشير أبو غزالة أن يحتفظ برأيه لنفسه حين يجد أن مَنْ يحيط به ما هو إلا جمع من الغوغائيين. لذلك ستتفهم تماماً رفضه أن يخوض في قضايا تتعلق بأذيال ثوب الدين، فحين يحاول بعض المذيعين أو المذيعات سحبه لهذه المنطقة بإعادة فتح ملفات الفنانات المحجبات والشيخ الشعراوي سيرد بقوله: علمني الشيخ الشعراوي أن أقول الحمد لله، فقد قال لي: «قل الحمد لله.. رددها لتصون النعمة» فجعلتها شعار عمري، وحين تُصر المذيعة سيقول: اجتهدي في التفسير، لكني لن أرد.

مفيد فوزي.. ربنا يمتعه بالصحة والسعادة، أكمل قبل يومين عامه السابع والثمانين فهو من مواليد ١٩ يونيو. إعلامي ومحاور مبدع يكاد يقترب من التسعين لكنه أكثر شباباً، ويمتلك صحة ذهنية وفكرية متقدة، ويتميز بسلامة المنطق واستقامته، سواء كان يتحدث في الفنون أو الثقافة أو السياسة أو أوضاعنا الاجتماعية.
أستاذ مفيد، كل سنة وحضرتك طيب وقادر على الكتابة والإبداع.

إعلان

إعلان

إعلان