لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تلك "النصوص الخالدة" وما يفعله الزمان بها ..

د.هشام عطية عبد المقصود

تلك "النصوص الخالدة" وما يفعله الزمان بها ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:03 م الجمعة 31 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

واحد من أهم الإشكاليات التي تقابل التفكير البشري وهو نزوع يرتبط بتقاليد المجتمعات ذات الثقافة الشفهية ذات التراكم عبر مدارات الأزمنة، هو الميل الجم للتلقي المنتشي للجمل البلاغية الإيقاع والجذابة لفظًا، تلك التي تبدو من حسن تنسيق كلماتها ودقة اختيارها كافية تمامًا؛ لتصنع الأثر المطلوب، إذ تشكل نسقًا جماليًا يخترق مصدات التفكر الناقد، وحيث تصيب في النفوس قبولا واستجابة استعذابا لإيقاعها وجرس لفظها وما تتحلى به من شكلية منطقية.

وكم عاشت نصوص وأعمال فنية روائية وشعرية بقوة جذبها لأجيال مختلفة لم تتراكم لديها بعد خبرات الترشيح والتدقيق لما يصل إليها فظلت رائجة زمنا، حتى قطع تواصل ذلك قدوم عصر الاستهلاك النصي والمرئي العظيم الذى صنعته منصات التواصل الاجتماعي، مقدمة بديلها العصري سريع الإنتاج والاستهلاك والتلف أيضا، ولعل مراجعة للكتب الرائجة جدًا عبر عقود مضت وكيف توقف انتشارها في هذا العقد كفيل بذلك، وهو أمر يسري على أعمال أخرى هي رائجة الآن بطبع حداثة إنتاجها وقدرة صانعيها وحضورهم على منصات التواصل لترويجها، وربما تلقى ذات المصير، وذلك ليس لشيء يخص محتواها بل هي بعض طبيعة ثقافة الإنتاج والاستهلاك الثقافي المعاصرة التي أسست لها بيئة الإنترنت، وتشكلت على أساسها ذائقة جمهورها، كما حددت وتيرة تسارع تحولات تلك الذائقة.

هنا ربما يطل السؤال هل سيمنح الزمان أو الأزمنة المتأسسة على قراءة شاشات الموبايل حيزا لإنتاج محتوى ثقافي وفني يبقى ويحتفى به ويعاد إنتاجه وتمثله عبر الأجيال – كما حدث ذلك تاريخيا- باعتبارها أعمالا خالدة جديدة؟

عموما يحظى أبناء ثقافة منصات التواصل وشاشات الهواتف الذكية بفلسفة "تلقائية" هي ابنة عصرها بأن نمط الاستهلاك السريع يسبق كل شيء ومذاق سرعة ذلك يتشابه تمامًا مع ترك شريحة البرجر قليلا جدا لتبرد بعد شيها فلا تكون قابلة للأكل.

ولعل هذا فعل إنساني تصنعه متغيرات عصره، ويجد بعضا من أثر تلحظه أجيال أسبق حين تعيد قراءة، وتلقى ثم المقارنة بين روايات أو أعمال أدبية وفنية قديمة سحرت خيالها واستقرت في وجدانها باعتبارها "معلقات"، ثم حين تعيد حاليًا - وبعد زمان- تمثلها ترى أن ما تقرؤه الآن لم يكن أبدًا جديرًا بكل ذلك الانبهار المستسلم، ولتعرف أن ذلك هو أثر الأيام إذ تمضي وتأخذ معها طفولة الدهشة السريعة ذات الاستجابة الفطرية الجاهزة للمثيرات الخارجية انبهارًا.

وعلى العكس من ذلك أيضا بقى لديهم أيضا القليل جدا من النصوص والأعمال كساحات للاكتشاف المتأخر والمتجدد معا، وحيث مع كل استماع أو قراءة أو نظر تمنح فيوضاتها بخبرات سياق التلقي الجديدة؛ لتصبح في عرفهم "الأعمال الخالدة"، والتي أحسب أن زمن الاستهلاك النصي السريع الذي أتاحه الإنترنت يضيع بهاء تلك الصفة التي أرخت خصائص ذاكرة الأجيال السابقة.

ذلك أن كثرة وغزارة وتنوع الإنتاج وتعدد مستوياته وسرعة إتاحته وأيضا دورة انتهاء عمره تجعله غذاء ثقافيًا قريبًا ويسيرًا، وهى فكرة تترسخ لدى كثير من منتجيه أنفسهم، وتشكل خصائص محتواه لتكون قابلة ومتقبلة معا لفكرة الاستهلاك السريع، وربما لذلك تأثيره الكبير على مقولة بقيت مؤثرة وهي التراث التاريخي للأجيال، فقد حفظت أوعية المعلومات القديمة ذخائر المعرفة الإنسانية عبر مراحل الزمان وتعاقب الحضارات، تلك الأعمال التي حظيت بإجماع ما أنها أفضل نتاجات عصرها، لكن كيف ستتعامل الأجيال والقرون اللاحقة مع كل هذا الإنتاج الغزير غير المصنف تأصيلا وجدارة وأيها تنتقيه تعبيرًا عن ثقافة عصورهم، وتدليلاً على معايش وطرائق ونصوص هذه الأجيال؟.

وكما تُعلمنا فلسفات الأزمان أن لكل شيء إذا ما تم نقصان، ومن ثم فإن فوران غزارة المعرفة وتنوعها يحمل في داخله جدل مشكلات تداخلها وغياب آليات تمييزها وفرزها، ولعل نظرة على كم العناوين التي يحملها معرض الكتاب في بند معرفي واحد فقط يخص الإنتاج الروائي والقصصي تقول لنا كيف أثرت مواقع التواصل الاجتماعي على الإنتاج والتلقي، وكيف منحت الشجاعة والمبادرة لإنتاج كثيف غزير متعدد لا يمكنك أبدًا أن تحكم عليه بيسر وتصنفه؛ لتستخلص من ذلك أنه رغم الإتاحة ويسر النشر تسللت ببطء غيوم غموض المعرفة وصعوبة الإحاطة بما يشبه الزمانات القديمة، التي يجتهد فيها الباحثون اقتفاء لآثار مهمة كاشفة نادرة لتعبيرات الأزمان، وهكذا فإن للحياة منطقها وللزمان قوانينه ولا يزال.

إعلان