لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أصحاب الهمم (25).. إمام الأغنية الثورية "1"

د طارق عباس

أصحاب الهمم (25).. إمام الأغنية الثورية "1"

د. طارق عباس
09:01 م الخميس 23 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. طارق عباس

ليس الفنان الحقيقي هو فقط من يمتلك صوتًا عذبًا أو أفكارًا لحنية متجددة أو قدرة عبقرية على نظم الكلمات في قالب شعري غير نمطي، وإنما – بالإضافة لكل ما سبق – هو صاحب قضية يتبناها ويدافع عنها وثوابت يصر عليها وأحلام يتطلع لتحقيقها لا على مستواه الشخصي فحسب، بل على مستوى الوطن ومدى عمق علاقته بهذا الوطن، لذا كان الشيخ إمام عيسى – رغم فقره وإعاقته – وسقوطه أسير كليهما طيلة حياته، إلا أنه كان فنانًا جادًا وحقيقيًا، امتلك أدواته الفنية ثم وظفها لخدمة قناعاته وأفكاره ومبادئه، فلم يكن يغني ليستعرض قدراته الصوتية أو اللحنية أو ليبلغ الشهرة ويكتنز المال، لكن ليعبر عن هموم وطنه وآلامه ويدافع عن حريته وكرامته ويحرض الأحرار على التصدي والثورة على الظلم والقهر والاستبداد المتفشي في زمانه لذلك غزت أغنياته القلوب والعقول، بصدقها وعمق مضامينها، وتحولت من كونها عملًا فنيًا يستحق الإعجاب والتقدير إلى رسالة سامية يستلهمها حراس التغيير والداعون للثورة.

وُلِدَ الشيخ إمام محمد أحمد عيسى في 2 – 7 – 1918، في قرية "أبوالنمرس" بمحافظة الجيزة، تلك التي كانت مثل غيرها من القرى "خزانة الروح المصرية" فيها الغرس والرواء حتى يشتد العود يصبح صالحا للنقل إلى المدن حيث يستوطن المبدعون على اختلاف مستوياتهم.

نشأ الشيخ في أسرة فقيرة جدا، ممزقًا بين قسوة الأب الذي كان يعده كي يكون قارئا للقرآن وحنان الأم الساعية دائمًا لاسترضاء إمام وتخفيف آلامه الناشئة عن فقدانه نعمة البصر وهو في شهوره الأولى التالية لمولده بعد أن أصيبت عيناه بالرمد وعولجت بطريقة بدائية.

بحكم طبيعة العاهة، لم يكن أمام الأسرة إلا التعليم السمعي لتنمية مدارك الطفل وربطه بالحياة وربط الحياة به، وليس هناك أفضل من تعليمه قراءة القرآن وتجويده وإتقانها كي يمارسها عملاً يتقوت منه سواء بقراءة القرآن في المآتم أو في المقابر أو على الأقل العمل مؤذنًا في المساجد الكبيرة.

بدأ الشيخ إمام حفظ القرآن والتواشيح وهو في الخامسة من عمره، وما إن بلغ التاسعة حتى تكون لديه رصيد كبير من الموشحات التي كان يحلو له أن يؤديها خلف الشيوخ الذين كانوا يأتون للأفراح لتقديم المواعظ والإرشادات وفي أحد هذه الأفراح التقى إمام بالشيخ "محمود خطاب السبكي" وبعد أن استمع لصوته، أُعجِبَ به كثيرا، حتى أنه طلب من والد إمام أن يلحقه ليتعلم بالجمعية الشرعية بالقاهرة شريطة أن يُتِم حفظ القرآن، وافق الأب، وانكب إمام على حفظ ما تبقى له من سور القرآن، ولما تمت له الغاية، ذهب للقاهرة والتحق بالجمعية الشرعية، وبقي فيها مدة 5 سنوات، ثم أُجبِرَ على تركها، لارتكابه من وجهة نظر إدارتها جرما لا يغتفر، وهو أنه كان يتسلل من الجمعية الشرعية باستمرار؛ ليجلس على أحد المقاهي من أجل الاستماع لصوت الشيخ محمد رفعت في الإذاعة المصرية وقد تصادف أن شاهده أحد المنتسبين للجمعية وأبلغ الإدارة بأن الشيخ يجلس على المقهى ويستمع كذلك للشيخ محمد رفعت في الراديو، وهو بذلك مخالف لاعتبارين، الأول: الجلوس على المقهى، والثاني: الاستماع للشيخ محمد رفعت في الراديو، والراديو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

حاول الشيخ إمام أن يعتذر عما رأته الإدارة جرمًا لكن اعتذاره قوبل بالرفض؛ ليجد نفسه وجها لوجه أمام شارع لا يرحم ولقمة عيش يتعذر الحصول عليها بسهولة، كانت طبيعة المرحلة شاقة جدًا على الشاب الضرير، فماذا عساه أن يفعل؟ خاصة أنه مضطر أن يقضي نهاره كله في مسجد الحسين ثم يذهب ليلا إلى الجامع الأزهر كي ينام فيه.

بقي الشيخ شريدا مدة 3 أشهر تقريبًا، حتى قادته قدماه إلى منطقة بالغورية تسمى "حوش آدم " فتعرف هناك على ناس أحب عشرتهم وآمن على بقائه بينهم معظمهم كان من أبناء قريته أبوالنمرس، لذلك حصل بسهولة على شقة استأجرها، بينما دعاه أبناء المنطقة لقراءة القرآن في بيوتهم وبذلك فُتحَ له باب واسع من أبواب الرزق.

في عام 1938، وبينما كان الشيخ إمام يقرأ القرآن في محل للحلاقة، بحوش آدم، وكان الشيخ درويش الحريري، أحد زبائن المحل جالسًا، وبمجرد أن استمع لقراءة إمام حتى قال لصاحب المحل: "ما أجمل هذا الصوت، من المؤكد أن له مستقبل كبير إن شاء الله"، عندما علم الشيخ إمام أن صاحب الصوت والرأي هو الشيخ درويش الحريري حتى تعلق بملابسه، وطلب منه أن يتتلمذ على يديه ويأخذ من علمه في الموسيقى والمقامات العربية، وكان الشيخ درويش الحريري مهتمًا بتعليم العميان الموسيقى ويسعد بصحبتهم خاصة أنه كان مثلهم وعلى ما يبدو أنه كان يشعر بمعاناتهم ويرغب في مساعدتهم قدر استطاعته.

تردد إمام على الشيخ وأخذ عنه الكثير والكثير حتى تهذبت موهبته وزادت خبراته الفنية وشعبيته أيضا.

كان حلم الشيخ إمام أن يتعلم العود، لكنه اعتقد أن تعلم هذه الآلة يحتاج للبصر، حتى التقى ذات يوم عام 1942 بشخص يُدعى "كامل الحمصاني" وكان أعمى ويجيد العزف على العود، الأمر الذي دفع إمام لأن يطلب من كامل أن يعلمه العود، والغريب أنه خلال 4 جلسات فقط أجاد الشيخ هذه الآلة بل وأتقنها.

في عام 1945 قرر الشيخ إمام احتراف الغناء وترك قراءة القرآن في البيوت، واستبدل الملابس الأزهرية بالبدلة، وأصبح إمام أفندي بدلا من الشيخ إمام.

وللحديث بقية.

إعلان