لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ابتسم وتثاءب .. ولا تبالِ

د. عبدالهادي مصباح

ابتسم وتثاءب .. ولا تبالِ

د. عبدالهادي مصباح
09:01 م الخميس 23 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

التبسم – وإن كان مفتعلاً – يًكسب الإنسان نظرة متفائلة للحياة، ويحسن من حالته المزاجية، ويجعل الآخرين يتعاملون معك بود وتعاطف كبيرين، لذلك تبسم في كل لحظة متاحة من يومك، ابتسم وأنت داخل على من لا تعرف، ابتسم وأنت واقف في طابور السوبر ماركت أو إشارة المرور، ابتسم في وجه رئيسك ومرؤسيك، فالتبسم من الأشياء المًعدية، لذلك ستجد الآخرين يبادلونك الابتسامة بابتسامة، والنساء أكثر قابلية لهذه العدوى، بل إن مجرد رؤية صورة لوجه مبتسم تشعرك بالرضا والسرور والطمأنينة، وعلى العكس، فرؤية صورة لوجه عابس تشعرك بالضيق وربما بالحزن ولو عجزنا عن التبسم فإن العالم سيمتلئ بالشرور.

ويمارس التبسم آلياته المؤثرة في إزالة الغضب والتوتر من خلال تنشيط الدوائر العصبية المسؤولة عن التعاملات الاجتماعية والتعاطف والمزاج، أما الضحك، فدوره أقل من التبسم، وإن كان ينفث عن التوتر وله فوائد أخرى، وفي نفس الوقت فالضحك المفرط ينشط اللوزة المخية المسؤولة عن المخاوف والاستعداد للخطر، وربما يفسر ذلك توجسنا خيفة إذا ما ضحكنا كثيرًا وقولنا (اللهم اجعله خيرًا)، وأحيانا نضحك لموقف يؤذي الآخرين (كأن يسقط إنسان عندما ينزلق على قشرة موز مثلاً)، فهل هذا سلوك سادي، أم أننا نًطمئن أنفسنا ومن حولنا أن السقطة لم تكن خطيرة؟

ويخبرنا د.أندرونيوبيرج Andrew Newberg أحد مؤسسي علم البيولوجيا العصبية للتدين Neurotheology (وهو علم جديد متخصص في دراسة الأسس العصبية البيولوجية للتدين)، وهو في نفس الوقت أستاذ للأشعة التشخيصية، ومحاضر في أقسام الطب النفسي والدراسات الدينية بجامعة بنسلفانيا، ورئيس "مركز الدراسات الروحية والعقلية" التابع لجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة أن المركز قد قام بمراجعة مئات الدراسات الطبية والعصبية والنفسية والاجتماعية المهتمة بتأثير التدريبات العقلية على أداء المخ، فوجدها تتفق في نقطتين جوهريتين:

الأولى: أن الممارسات الدينية والروحية - ولو بقدر بسيط - تُحسن من الصحة ومتوسط العمر، ما لم يصحبها التركيز على صورة الإله ذي البطش وما يصحب ذلك من تطرف ديني.

الثانية: أن الممارسات الدينية والروحية الأطول، مع التأمل العميق، تحسن بشكل دائم الوظائف العصبية لمناطق عديدة من المخ، ويصحب ذلك تقليل التوتر والاكتئاب، وتحسن من تعاطفنا وعلاقاتنا مع الآخرين، وتحسن أيضاً من القدرات العقلية والنفسية، وتزيد من التحكم في الانفعالات والتوتر والغضب، وعلى أقل تقدير تعطي المرء نظرة متفائلة للحياة، وفي النهاية تؤخر التغيرات الضارة في المخ المصاحبة للتقدم في السن.

ويظن "أندرونيوبيرج" أنه لا توجد ديانة تهتم بالتبسم إلا البوذية، ولا شك أن ذلك غير صحيح، فالإسلام يحض على التبسم، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن "... تبسمك في وجه أخيك صدقة...." أي أن الإنسان سيؤجر عليه، بل إنه صلى الله عليه وسلم يدلنا على وسيلة أخرى لا تقل عن التبسم في نشر الود والألفة والمحبة بين الناس، ونشر الطمأنينة في نفوسنا، وهي أن نتبادل التحية فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".

تثاءب !! Yawn

سأحدثكم الآن عن أحد أسرار علوم المخ والأعصاب، التي غابت عن كثير من المتخصصين، ثم بدأ أخيرًا يجد له مكانا في تدريبات تحسين الأداء العقلي والنفسي وتقليل التوتر، وفي التدريبات الروحية، فقد أظهر تصوير CT/Spect أن التثاؤب يزيد من نشاط منطقة صغيرة في المخ تُعرف باسم "الوتد الأمامي"The precuneus، تقع بين تلافيف الفص الجداري، ولهذه المنطقة دور كبير في الوعي والشعور بالذات والذاكرة والاستجابة لتصرفات الآخرين، وفوائد التثاؤب لا تقف عند الاسترخاء البدني وتقليل التوتر فقط، لكنه يزيد من قدراتنا المعرفية، فهو يخلص المخ من الشعور بالإجهاد والكسل، ويعين على التركيز، ويجعلنا أكثر وعيًا بذاتنا ويسهل من تواصلنا مع الآخرين.

والتثاؤب من أشد النشاطات العصبية عدوى في الإنسان، فالتثاؤب مرات قليلة في حضور الآخرين يجعلهم يبادرون هم أيضا بذلك، فهل يجعلهم ذلك يبادلوننا تعاطفًا بتعاطف؟ وقد ثبت أن قرابة الأسبوع العشرين من الحمل يزداد تثاؤب السيدة الحامل، مما يعين على تنظيم الأنشطة المرتبطة بالساعة البيولوجية لجنينها مثل النوم، والاستيقاظ، ونشاط الغدد الصماء، ومن هذا المنطلق فالتثاؤب يفيد في التخلص من اضطرابات اختلاف التوقيت عند السفر jet lag، ويساعد على التأقلم عند السفر إلى المناطق المرتفعة، وتلعب العديد من النواقل أو المواصلات الكيميائية العصبية دورًا في التثاؤب ومن أهمها زيادة إفراز "الدوبامين"، الذي يعطي الشعور بالرضا والسعادة والتعاطف مع الآخرين، كما ينشط إفراز الأوكسيتوسين (هرمون الحب) من منطقتي تحت المهاد وفرس البحر.

ويوجه "أندرونيوبرج" كلامه لنا في هذا الشأن قائلا: نصيحتي الأساسية هنا بسيطة للغاية: تثاءب كأقصى ما تستطيع، عندما تستعد للنوم، عند استيقاظك من النوم، عندما تواجه موقفا عصبيا، عندما تشعر بالضيق والتوتر، قبل إلقاء محاضرة هامة، قبل دخولك الامتحان، عندما تستعد للصلاة، وعندما تُقدم على علاقتك الحميمة مع زوجتك... لهذه الدرجة؟ فما فوائد هذا التثاؤب؟

1. تنشيط الوعي والانتباه 2- تحسين أيض ونشاط المخ 3- تحسين الوظائف المعرفية للمخ 4- تحسين الذاكرة 5- تحسين وعيك بذاتك 6- تقليل التوتر واسترخاء كل جزء من جسمك 7- تحسين تحكمك في عضلاتك وتحسين أدائك الرياضي وتحسين استمتاعك بنشاطك الجسدي 8- تحسين إدراكك للوقت وتحسين تعاطفك وعلاقاتك بالآخرين.

قد تقول: هل هذا معقول؟! لن يكلفك الأمر إلا أن تجرب، ويضيف نيوبرج: عندما أطلب من الحضور في أي لقاء أن يتثاءبوا عادة يكون المانع أحد أربعة:

إن هذا أمر غير لائق (لقد تربينا على ذلك) - لستُ مجهدًا - لا أشعر بالرغبة - لا أستطيع. عليك أن تلغي هذه الموانع من عقلك، وأن تدرك أنك تستطيع، كل ما عليك هو أن تبدأ بالتثاؤب بعمق بضع مرات، وفي المرة السادسة ستجد أنك تتثاءب لا إراديًا، فتجاوب مع رغبتك، ولا تكبت رغبتك في التمطع في المرة العاشرة ستبدأ في الشعور ببعض الفوائد التي ذكرناها، وستجد أن عينيك تدمعان وأن أنفك يُندى، وفي النهاية ستجد أنك قد استرخيت وهدأت وصرت شديد الانتباه، بل وسيبدأ الآخرون في مشاركتك.

لن يكلفك الأمر أكثر من دقيقتين، فلتجرب، وإذا احتاج الأمر فاذهب إلى مكان منفرد.

وقد تأملت كثيرًا وأنا أقرأ فوائد التثاؤب، فهل نجد في القرآن الكريم أو السنة النبوية إشارة إلى فوائده العديدة التي بينها العلم، وأثناء تأملي إذا بآيتين قرآنيتين تقفزان إلى ذاكرتي، آية سورة الأنفال التي وردت في حق مجاهدي معركة بدر (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) (الأنفال 11)، وآية سورة آل عمران التي جاءت في حق مجاهدي معركة أحد (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ) (آل عمران: 154).

وجاء في شرح الآيتين في تفسير ابن كثير وغيره، أن الصحابة الكرام كانوا يغالبهم النعاس (الذي كثيرًا ما يصاحبه التثاؤب)، حتى تكاد السيوف تسقط من أياديهم، ويفيقون، ثم يغلبهم النعاس مرة أخرى، وهكذا إن مغالبة النعاس على هذه الحالة كان له تأثير في الشعور بالأمن والطمأنينة في حينه، ثم تحسين الانتباه أثناء الاشتباك مع الكفار، وهو نفس الشعور الذى يسببه التثاؤب. 

إعلان