لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الحاجة لمشروع إصلاحي فكري (٢)

د. غادة موسى

الحاجة لمشروع إصلاحي فكري (٢)

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م الأحد 09 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عند طرح موضوع الإصلاح الفكري تثور تساؤلات عديدة:

أي فكر نريد إصلاحه؟ وما هو النهج المتبع في الإصلاح، وماهية موضوعات الإصلاح وجذوره، وخطة الإصلاح، وحدودها الزمنية والمكانية؟

وهذه التساؤلات ليست وليدة أحوالنا وظروفنا المعاصرة، ولكن تم طرحها في عصور سابقة، إنما في سياقات مختلفة.

ومما لا شك فيه أن العصر الحالي يسمح بدرجة أكبر من الإصلاح، ليس فحسب نتيجة التراكم المعرفي لمقدمات ومنتجات حركات الإصلاح الفكري، وإنما أيضا بسبب سرعة انتشار المعارف والأفكار بفعل الثورات التكنولوجية، وهو ظرف لم يكن متاحًا للمفكرين والفلاسفة والإصلاحيين ممن وضعوا وقادوا حركات إصلاحية.

...

أولى خطوات الإصلاح الفكري هي تحرير العقل من الجمود، والانحيازات الفكرية والثقافية التي تتسم بالغلو الذي قد يصل إلى حد التطرف.

وثاني الخطوات إيقاظ وعي الناس ليس فقط بضرورة إحياء القيم، ولكن بتجديدها وتطويرها والإضافة لها.

وثالث الخطوات- كما سبقت الإشارة في الجزء الأول- عدم القطيعة مع الأمس، أي التراث والتاريخ، ومواكبة التطورات السريعة في العلم ومسايرة حركة المجتمع الثقافية والسياسية والاقتصادية. والخطوات الثلاث لا تنفصل البتة عن بعضها.

وبإمعان النظر في توجهات الحركات الإصلاحية المعاصرة نجد معظمها مستقطبًا للمعاصر أو للتراثي.

وهذه الخصيصة لم تكن من خصائص حركات الإصلاح في العصور الحديثة، بدءًا من الإمام محمد عبده والأفغاني وحتى العلماء والفلاسفة المعاصرين من أصحاب المشاريع الإصلاحية كعابد الجابري وبرهان غليون وعبد الوهاب المسيري وجمال حمدان وأحمد كمال أبوالمجد ومراد وهبة.

وعلى مدار تاريخ مصر وُجد تياران يتنازعان حركة الإصلاح الفكري.

التيار الأول هو التيار المحافظ الذي يرى أن إصلاح الفكر يبدأ من التعليم الصحيح بين أفراد الشعب والتدرج في الحكم النيابي والانفتاح على الحضارات الأخرى. فالإصلاح عند هؤلاء ينبغي أن يأتي بالتدريج ليستقر، وليس طفرة فيزول.

أما التيار الثاني، فهو التيار الثوري، ويُعلي من مبدأ الفردية متجسدًا في الحرية الشخصية تأسيًا بالمجتمعات الأوروبية الحديثة. وكانت نواته جماعة من المثقفين الذين تلقوا تعليمهم في أوروبا، وتأثروا بالحركات الاجتماعية والسياسية هناك، مثل أديب إسحاق، وطه حسين، وقاسم أمين.

وقد نشبت مواجهات فكرية عديدة بين التيارين اتهم كلاهما الآخر إما بالرجعية أو بالانسلاخ من التراث واستيراد قيم ليست من نسيج المجتمعات العربية.

غير أنه كان لكليهما إنتاجه الفكري الغزير وحجته. واشترك التياران في الأخذ من الغرب والاستفادة من التراث بنسب متباينة.

...

وقد ميز كل التيارات الإصلاحية أنها جاءت مدفوعة بأزمات ثقافية فكرية أو سياسية أكثر منها أزمات اقتصادية. بعبارة أخرى، عملت كل الحركات الإصلاحية على اقتفاء سبب المرض وليس معالجة العرض. وعادة ما يقبع المرض في العقل والفكر كأحد أهم منتجات العقل.

كيف نفكر في حياتنا، وفي بيئتنا والأمم المحيطة بنا والمنتجات التي نستخدمها؟ جميعها موضوعات محلها العقل.

ومن رواد حركات الإصلاح التراثيين إلى جانب الإمام محمد عبده والإمام الأفغاني، الذين بحثوا في العقل عن حلول لأزمات المجتمعات العربية هو مالك بن نبي.

فعندما دب الوهن في أوصال المجتمعات العربية والإسلامية رأى مالك بن نبي أن "جوهر الإصلاح هو تغيير نفوس الشعوب، وتخليصها من موروث الاستعباد والقابلية له. وإعادة إحيائها من جديد حتى تتفاعل مع معطيات الحضارة الأساسية".

وقد انشغل مالك بن نبي في البحث عن مسببات تأخر العرب والمسلمين وتقدم غيرهم. ويجيب مالك بن نبي أن كل الحضارات التي عرفتها البشرية قد مرت بثلاث مراحل:

مرحلة الميلاد.

ومرحلة التمدد والانتشار.

ومرحلة الأفول.

وعندما ينحدر منحنى الحضارة فهو يؤشر إلى مرحلة الأفول. ومرحلة الأفول عنوان لتفشي أمراض الجهل والفقر والتسلط والعنف.

لذلك ليس معقولًا أو منطقيا أن ننشغل بعلاج العرض ونغفل المرض.

والمرض هو أننا كمجتمعات عربية ليس لنا دورٌ في حركة التاريخ الحديث والمعاصر. ليس لنا إنتاج فكري أو مادي واضح نقدمه للإنسانية وللآخر.

وبالصياغات اللغوية المعاصرة أستعين بمصطلح التجارب الجيدة؛ فليس لدينا تجربة جيدة تنسب لنا، لا على مستوى الإنسان ولا على مستوى التراب (البيئة والأوطان) ولا على مستوى الوقت (المستويات الثلاثة التي تنبع منها حضارات الأمم).

فما هو نمط الحياة الذي نتطلع له كشعوب عربية؟

وما هي خطوات إعادة رفد عقولنا بأفكار ومبادئ تمكننا من تنظيم حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؟

وما هو شكل اختياراتنا في كيفية العيش مع الآخر، بعيدًا عن الانصهار الكامل أو الإلزام أو العزلة؟

وهل لدينا تفضيلات بعينها حول سيرورة الحياة البشرية يمكن مشاركتها مع المختلفين عنا ثقافيًا وفكريًا؟

...

قد تكون نقطة البداية في المشروع الإصلاحي الفكري طرح التساؤل التالي:

ماذا نريد من حياتنا؟ وكيف يمكن تحقيق ما نريده؟

ولعل أول خطوة لا تتبع التيار المحافظ، وإنما تنحو أكثر نحو التيار التقدمي هي التنقيب عن القيم التي يمكن أن نتفق عليها.

وقد يبدو الطرح بسيطًا للبعض، ولكن الحقيقة الصادمة هي أننا غير متفقين على القيم التي تجمعنا، وترشدنا نحو الإصلاح؛ لأننا قد لا نعي جوهرها ومعناها وحدودها.

إعلان