لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ما فعلته "الميديا" بالبشر ..

د.هشام عطية عبدالمقصود

ما فعلته "الميديا" بالبشر ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 22 فبراير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ربما يعوزك كثير من خيال حتى تعود إلى زمان بعيد يمتد إلى قرون مضت، لتعرف كيف كان البشر يتواصلون عبر حواجز الجغرافيا وتوقيتات الزمان، ولكن ربما لن تحتاج سوى سؤال الأكبر سنا ليحكوا لك عن عالم عرفوه تماما لم يكن البشر فيه يعرفون الإنترنت وموجات الواي فاي ولا يلتصقون بأجهزة الموبايل يقظة ومناما وما بينهما.

"المسافر حتى يعود" كان تعبيرًا عن فكرة الاشتياق والانتظار لعدم الحضور المادي للمسافرين أو من أبعدته غربة العمل، وقد أنهتها تمامًا شاشات الحواسب والموبايل ببث مستمر وفوري للشخص البعيد صوتًا وصورة، ولو كان هناك على الجانب الآخر من الكرة الأرضية عكس وجهة الجغرافيا وتبدل دورة الليل والنهار.

غيرت "الميديا" من طبيعة تفاعل الخلائق والمجتمعات وصنعت حيوات موازية وبديلة، أسموها مجازًا وتخفيفًا افتراضية، لكن منظومة الاستخدام والتواجد معها وكما تشير الإحصاءات تقول إنها صارت أكثر اتساعا ورحابة من فضاءات الواقع، الذي أوشك أن يكون هو الهامش والافتراضي.

تقدم صحيفة الديلي تليجراف تقريرًا مدهشًا عن سمات عقد من الحياة مع الهواتف الذكية، يحمل نتائج مسوح للعام 2018 وتشير إلى أن الفرد في الغرب صار يقضي ما يوازى يومًا كاملاً من كل سبعة أيام "أون لاين" وأن ذلك يساوي تمامًا ضعف المدة التي كان البشر يمضونها قبل عقد واحد، ويمتد الأمر لدى البالغين ليقترب من أربعين ساعة كاملة، وتعلن دراسة مؤسسة "Nielsen" في يوليو 2018 أن ما يقرب من نصف يوم المراهقين يمضونه تفاعلا مع الميديا بأشكالها المختلفة.
في العوالم الاتصالية التي صنعتها الميديا عبر الهواتف وأجهزة الكمبيوتر نشأت البروفايلات الشخصية المحسنة، فمنحت الفرص لإعادة بناء الشخصية وفق ما يرغب الفرد – منقطعًا من بعض أو كل تاريخه الفعلي- لينسى أو يتجاهل أو يختزل ما يعرفه عنه المتفاعلون معه واقعيًا، ثم يمضي الوقت فيصدق وربما يهيم بحضوره الجديد وسط آلاف الأصدقاء الجدد الذين اختارهم ليكونوا عائلته "الإليكترونية" الجديدة.
تمنح التفاعلات البشرية عبر الميديا للفرد أن يحدد سياقات حضوره وغيابه وينتقي الموضوعات والجروبات والشخصيات، يصمت أو يتحدث، يتفاعل أو يشاهد فقط ودون كلفة من الواقع واضطراراته، ولهذا ازدهرت العوالم والحيوات التي تصنعها الميديا كثيرًا وبهتت عوالم الحياة التي نشأ الخلق عليها بما ارتبط بها من آثار جانبية وتداعٍ للاغتراب والقلق، الذي صار التكيف معه وإدارته بضاعة رائجة لكتب يعرفها العالم تحت مسمى التنمية البشرية تحدد سبع أو تسع خطوات يمكن أن تتبعها فتعيش سعيدًا.
نعم، صار العالمُ آخرَ مختلفًا، صنعته الميديا ونموها متشكلاً بإضافات تتجدد، ليحدث التحول الأكبر بشريًا وكونيًا وعبر مختلف الأصقاع والبلاد، ومنذ زمان ركب فيه المنادون الخيلَ والحميرَ وهم يحملون الرسائل لينقلوها للعامة، وحتى استقبلت الجموع الرسائل الواحدة في توقيت زمني متقاربٍ وعبر مختلف الوسائل الإعلامية التقليدي منها والجديد.
اتسع مجال المعارف لدى الفرد بما يفوق طاقته وإحاطته فكبر الأطفال في العمر غصبًا، وحاول الكبار توقيف الزمان جبرًا، وظلت عجلة الميديا تمضي في طريقها وتربي أجيالها الجديدة على عينها وتصنع اعتمادهم عليها كأب وأم وعائلة وأصدقاء ومؤسسات.
زادت إتاحات الفرد وقلت حريته الحقيقية، فكيف سينفلت من حضور الميديا وقد حاصرته المعرفة الاضطرارية والإلزامية فأصبحت قدرته على العمل وفق ما لا يعرف أو يتجاهل منعدمة.
صنع الإنسان بيئته الجديدة - وفق المشيئة ومتسلحًا بالأسباب- فغير من حالته البدائية وقاوم التعرض لعدوان وهجوم عواصف ونزلات الطبيعة، وطور أدواته وصنع ما يقيه الحر والبرد والمطر وتوحش الضواري لكنه عزل نفسه بين أربعة جدران تحميه، ونام تحت ضوء النيون بديلا عن ضوء النجوم.
حين تنظر الآن إلى موضع الموبايل وقد صار عدد حائزيه موازيًا تقريبا لعدد السكان في المجتمعات، ستدرك أنه مصدر التخييلات والعوالم المضاءة المتنوعة التي تتفتح بضغطة زر على شاشته، متاحا مستجيبا طائعا قبل النوم وبعد اليقظة ووسط الأسرة والأصدقاء، حينها ستدرك تمامًا ما قد صار حتميًا ومعروفا في الحياة بالضرورة.

إعلان

إعلان

إعلان