لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بقايا التنمية والتحديث

د. غادة موسى

بقايا التنمية والتحديث

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 23 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أثارت الإشكالية الأخيرة للطائرة الحربية التي تريد مصر أن تحصل عليها، في إطار تطوير منظومة الدفاع لديها- العلاقة بين دول العالم النامي والأقل نموا.

والمتابع المشهد الدولي يدرك أننا عدنا ندور في فلك نظريات جرت عليها مراجعات عديدة، مثل نظريات التبعية والتحديث والتنمية، بعد فكاك دول العالم الثالث من براثن الاستعمار في نهاية الخمسينيات والستينيات.

وفي الواقع لا يهدف هذا المقال إلى مناقشة مسألة الطائرة التي أرى أنه من حق مصر الحصول عليها وعلى أي تقنية حديثة، وإنما هدفه مناقشة تساؤل حول إلى متى ستظل دول العالم الثالث مفعولًا به لا فاعلا.

فكما تعلمنا، فإن الصراع الدولي هو صراع من أجل الحصول على كل ما هو جديد وحديث في حقل التقنية. وعلى أدق مستوى يمكن تطبيق ذلك على الصراع بين الشركات في الولايات المتحدة والصين حول تقنيات الهواتف الذكية ونصيب منتجاتها في الأسواق الدولية. وهو صراع تقني قبل أن يكون صراعاً تجارياً. وفي نفس السياق نلحظ ذات الصراع بين دول الاتحاد الأوروبي في مجالات تقنية المعلومات وتبادلها وحدود الإفصاح، مثل ما قامت به ألمانيا مؤخرا من الكشف عن أحدث الأجهزة الاستخباراتية التي كانت تستخدمها في عملياتها من خلال متحف يستهدف الجمهور بداخل المبنى الجديد للاستخبارات الألمانية.

ورغم أن التقنية الحديثة هدفها تيسير حياة البشر وزيادة التواصل وتقديم الأفكار والخدمات بصورة أسرع وأدق وأكثر جودة، فإن ما تحصل عليه دول العالم الثالث منها هو البقايا أو بعبارة أكثر قسوة "مخلفات التحديث والتنمية".

وكنا في الماضي في التسعينيات درسنا انه أمام دول العالم الثالث ٥٠٠ عام للحاق بالدول المتقدمة، ولكن مع التقنيات الحديثة أصبح في الإمكان اختصار الزمن والمسافات، ورغم ذلك ما زلنا نتلقى الفتات، على الرغم من الخطاب السياسي الدولي الوردي عن التمكين والشراكة وتشجيع الابتكار بين الأجزاء المختلفة من النظام العالمي.

لكن ما يحدث على أرض الواقع يتناقض مع هذا الخطاب المتفائل. وقد لا أكون من مناصري مدرسة " نظرية المؤامرة"، غير أن الطبيعة الجديدة للصراعات الدولية تقودني في اتجاه "أن الدول المتقدمة تصر، وتقصد أن نحصل فقط على بقايا ومخلفات التحديث لديها وبحدود".

الاشكالية الثانية تكمن في أسباب إصرارهم على حصولنا على بقايا التحديث والتنمية، بعبارة أخرى لماذا يصرون على منحنا ما تبقى منهم؟ ولماذا نوافق على هذا الشرط؟

الإجابة قد تكون للحفاظ على التفوق النسبي في التقنية، ومن ثم الحفاظ على توازن القوى الموجود.

الإجابة الثانية هي وجود أصحاب مصالح من الجانبين مستفيدون من هذه الوضعية.

والإجابة الثالثة هي أننا لم نسهم بعد كدول عالم ثالث في الثورة التقنية الحديثة بالقدر الذي يجعلنا نفرض شروطنا.

فنحن نطور تقنيات قديمة، بدلا من تقديم كل ما هو جديد وحديث. والتساؤل الذي يتفرع عن هذه الإشكالية هو عن أسباب توقفنا عن تقديم الحديث وأسباب عدم وجود بصمة أو أثر تقني لنا في العالم. والإجابة هي حرية الابتكار وحمايته. فنحن نتحدث كثيرا عن الابتكار ولكننا نقصره في التمويل. والابتكار ليس تمويلا- فقط - وإنما تعليم وفرص وتشريع وحماية.

والإحصاءات التي أصدرتها الدول المتقدمة عن المبتكرين والعلماء تشير بما لا يدع مجالا للشك فيه أن ٦٢٪ منهم بدول العالم الثالث! الذين يتم استقدامهم أو منحهم الفرص لتطوير وتطبيق ابتكاراتهم.

وبإلقاء نظرة سريعة على مؤشر الابتكار في عام ٢٠١٨، سنجد أن معظم دول العالم الثالث تقع في الثلث الأخير من المؤشر. وبدون الاهتمام بالابتكار ومتطلباته سنظل نحصل على بقايا التحديث والتنمية وعلى الفتات.

يضاف إلى الحقائق السابقة ما أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مؤخراً عن الهرم السكاني في مصر، حيث إن ٥١،٨٪ من السكان تحت ١٨ سنة! وهو مؤشر لو قرأته الدول المتقدمة ستدرك خطورة موقفها، إذ تنخفض نسبة الشباب والأطفال في الهرم السكاني لدولة مثل هولندا على سبيل المثال إلى ما دون ٣٠٪.

هذه النسب مؤشر على الحاجة الملحة للاستثمار في هؤلاء الأطفال والشباب ومنحهم حرية التعلم واكتساب المعارف والابتكار.

على الجانب الآخر وحتى نخرج من تبعية الحصول على بقايا التنمية والتحديث لا بد من الالتفات إلى مؤسسات البحث العلمي والمؤسسات التعليمية لدينا التي يخرج منها المبتكرون والعلماء، سواء في الكليات النظرية أو التطبيقية. وعلى رأسها المراكز القومية للبحوث وأكاديميات البحث العلمي التي تعج بالأبحاث المهملة والعلماء الذين تنقصهم الموارد والإمكانات والمناخ والفرص التي تمكنهم من الابتكار بدون عوائق وعراقيل. وهو ما يقودني إلى التأكيد على ضرورة الحفاظ على علمائنا ومبتكرينا من اليأس والهجرة والاغتيال.

هؤلاء يستحقون الحماية القانونية والرعاية. هؤلاء أحق بالحصانة. وهو ما يتطلب إصدار تشريعات تحمي عقولهم وأجسادهم من جهة، وبناء قواعد بيانات بأسمائهم وتخصصاتهم وأماكن تواجدهم لتوفير الحماية اللازمة لهم، على غرار ما فعلته الدول التي نجحت في الحفاظ على أجيال من علمائها.

هؤلاء فقط ودون غيرهم قادرون على وضعنا في موقع الفاعل دون المفعول به، وعلى انتشال دول العالم الثالث من حالة المنتظر للحصول على بقايا التنمية والتحديث التي تلقيها لنا دول العالم المتقدم مع سبق الإصرار والترصد.

إعلان