لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أزمة الثقافة المصرية بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ

د. أحمد عبد العال عمر

أزمة الثقافة المصرية بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ

د. أحمد عبدالعال عمر
07:02 م الأحد 15 ديسمبر 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم يكن الأستاذ نجيب محفوظ روائيًا عظيمًا فقط، بل كان أيضًا مثقفًا مصريًا من الطراز الأول، ومفكرًا عاش عصره وتحولاته بفهم فلسفي عميق وقدرة على الرصد والتحليل والنقد؛ ولهذا رأى ببصيرة نافذة مشكلات الإنسان المصري الروحية والعقلية والسياسية والاجتماعية في القرن العشرين، وقدمها على نحو غير مباشر عبر أعماله وشخصياته الروائية المختلفة، التي صارت في أغلبها "شخصيات مفهومية" تُعبر عن أفكار وتناقضات ومشكلات وأحلام وآمال وانتصارات وهزائم الإنسان المصري والمجتمع المصري في القرن العشرين.

وبعيدًا عن أعمال نجيب محفوظ الروائية، فقد كان للأستاذ رأي مباشر حول أزمة الثقافة المصرية، وهي الأزمة العميقة التي لم يختلف أحد على وجودها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي دعت الراحل الدكتور يوسف إدريس إلى كتابة مقاله الشهير المثير للجدل "أهمية أن نتثقف يا ناس" بجريدة الأهرام في يوليو 1984، الذي تنبئ فيه بأننا "سوف نتحول إلى مجتمع جاهل وإن كان بعضه بالشهادة متعلمًا. مجتمع غير واعٍ أو مدرك، أي غير مثقف. مجتمع ليس له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم، وتدافع عنها، وتدعو إليها. مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلامًا وخمولًا من السماء الملبدة بالغيوم".

كما حاول يوسف إدريس في مقاله تشخيص أسباب ومظاهر وتداعيات أزمة الثقافة المصرية، وكيفية مواجهتها حتى نوقف مؤشر الانحدار المستمر في مستوى الثقافة والقوة الناعمة المصرية. لكن مقال "أهمية أن نتثقف يا ناس" اتسم بحدة شديدة تتلائم مع طبيعة وشخصية يوسف إدريس ذاته، مما أثار جدلًا كبيرًا في حينه وغضبًا من مؤسسة الثقافة الرسمية وعلى رأسها وزير الثقافة في ذلك الوقت الراحل الدكتور عبد الحميد رضوان.

وعلى العكس من يوسف إدريس جاء حديث الأستاذ نجيب محفوظ حول أزمة الثقافة المصرية في نفس التوقيت الزمني وهو بداية ثمانينيات القرن الماضي، لكنه اتسم بالهدوء واللغة غير الصدامية على نحو يتناسب أيضًا مع طبيعة وشخصية نجيب محفوظ ذاته. وقد جاء حديثه وتحليله في حواره مع الإذاعي الكبير الأستاذ عمر بطيشة في برنامجه الإذاعي الشهير "شاهد على العصر" على أثير الإذاعة المصرية.

وقد أقر نجيب محفوظ بداية بوجود أزمة ثقافية في مصر، لكنه رآها جزءً من أزمة الثقافة العالمية التي تغيرت فيه وسائل الثقافة من الكلمة المقروءة إلى وسائل التواصل المسموعة والمُشاهدة، ومعها تحول القراء إلى مستمعين ومشاهدين، والمُشاهدة تُراعي الإمتاع والتسلية أكثر من الجدية، لأن طبيعة العرض الإذاعي والتلفزيوني تقتضي ذلك.

لكن الأستاذ نجيب محفوظ عاد واستدرك وقال إن الأزمة الثقافية العالمية جاءت لنا ونحن في حالة ثقافية ومعرفية تختلف عن أوروبا المُتحصنة بمناعة معرفية وثقافية راسخة نتيجة رقي وجودة التعليم لديهم. كما أنهم في أوروبا استطاعوا في نفس الوقت ونتيجة رقيهم المعرفي والثقافي خلق أدب إذاعي وتلفزيوني راقٍ يمتع ويُعلم ويثقف في ذات الوقت.

في حين أننا في مصر لم نفعل ذلك لانعدام المناعة المعرفية والثقافية لدينا بسبب أخطاء التربية والتعليم وتراجع مستواهم في العقود الأخيرة؛ وهي الأخطاء التي أخرجت أجيالًا لا تُحب القراءة، أجيالًا ليست من عشاق المعرفة والثقافة الرصينة الجادة، أجيالًا تُريد التسلية والمتعة فقط وليس الثقافة والمعرفة.

وقد أرجع الراحل نجيب محفوظ ضعف المناعة الثقافية والمعرفية عند المصريين لأسباب سياسية رافقت التحولات التي شهدتها مصر منذ ثورة يوليو 1952؛ لأن حرية الفكر عانت وقُيدت في بداية ثورة يوليو في محاولة من الثورة لحماية نفسها ضد أي أفكار مضادة، ونتيجة لذلك التقييد أصاب الفكر المصري فقر شديد، ولم تعرف مصر في الثلاثين سنة اللاحقة على قيام ثورة يوليو حركات ومغامرات فكرية تًجدد وتُحرك الراكد كما حدث في أعقاب ثورة 1919، وأصبحت القوة الثقافية المصرية تطير بجناح واحد أما يسار وإما يمين، وفي الحالتين كان جناحًا مقصوصًا محدود الفاعلية والتأثير.

كما أضاف الأستاذ نجيب محفوظ للأسباب الكامنة خلف أزمة الثقافية في مصر، أسبابًا اقتصادية ترتبت على سياسة الانفتاح في عهد الرئيس السادات، وسوء الحالة الاقتصادية، والغلاء العام، وغلاء أسعار الكتب بالنسبة للقلة المثقفة التي ظلت على وفائها للثقافة الجادة المكتوبة.

وقال الأستاذ نجيب محفوظ في نهاية تحليله لأزمة الثقافة المصرية، إن كل هذه العوامل السياسية والاقتصادية والعالمية تضافرت فيما بينها، وجعلت المناخ الثقافي في مصر عليلًا يحتاج إلى علاج، وجعلت المواهب الجديدة في مصر تُبدع وتُكتب في جو مظلم معادٍ لا يهتم بها ولا يُعطيها حقها.

رحم الله الأستاذ نجيب محفوظ، الذي تحدث في بداية الثمانينيات عن أسباب ومظاهر أزمة الثقافة في مصر، وكأنه يتحدث عن أزمة الثقافة والمثقفين في لحظتنا وحياتنا الراهنة. لكنه لم يتوقف فقط عند التشخيص، بل دعا لعلاج التدهور الثقافي القائم، وتحدث عن حاجتنا لإعادة بناء الإنسان المصري بالعلم والمعرفة؛ لأن عدونا الحقيقي في عصر التقدم العلمي الذي لا يعرف الرحمة هو "التخلف"، وإذا لم ننتصر على عدونا، ونتجاوز بسرعة تخلفنا، فإن السياح الذين يأتون للتفرج على بلادنا، سيأتون غدًا للتفرج علينا، باعتبارنا شعب تخلف عن الدنيا.

إعلان

إعلان

إعلان