لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"التلخيص" أو وقائع ما عرفوه ..

"التلخيص" أو وقائع ما عرفوه ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 13 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ستكون تلك الكتابات مفارقة مدهشة، تحمل أثرها عبر الوقت كمشاهدات على ديوان الحياة حقباً وأياماً، حكايات وملاحظات، بصراً وبصيرة، دهشة وتقبلاً ثم ما بينهما، إنها حكايات الأوائل الذين ذهبوا إلى الغرب متعلمين أو زائرين، فيلاحظون ويسجلون ثم يكتبون ما يبدو حين نتناوله اليوم تأريخاً ما لتلك الوقائع التي عايشوها أو تلخيصا لمدن والعالم يحمل بصمة "الإبريز" كما صكها رفاعه الطهطاوي في وقائع رحلته ومشاهداته في باريس والصادر عام 1834، حيث الإبريز لديه نفائس الذهب من ثمين الأفكار وأنماط الحياة وطرق المعايش التي يستخلصها وينقيها صافية من عموم ما يقابل ويرى.

وقد ظلت باريس مقصداً أثيراً لمثقفي مصر والعرب طوال النصف الأول من القرن العشرين، فهي حاضرة بشكل واضح في "أيام" طه حسين وعبر كونها مستودع الذائقة الأدبية في "صوت باريس"، أو لدى ما شكل بهجة عند توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق" وما أثمر لديه باعتباره "زهرة العمر" وليس أدل على ذلك من عنوان كتاب مبكر نسبيا عنهما وتضمن رحلة الدكتور أحمد زكى باشا إلى فرنسا عام 1900 بعنوان " الدنيا في باريس"، بينما ظلت بعض الكتابات الأخرى الكثيرة ليست حاضرة بالقوة نفسها، ولعل واحدا من أكثر الكتابات التي تحتشد بأسلوب فريد وطاقة تعبيرية درامية هو كتاب الدكتور زكى مبارك "ذكريات باريس" والتي تضم ملاحظاته لفترة دراسته للدكتوراه في جامعة السوربون خلال المدة من 1927 إلى 1931.

ويحمل الكتاب على غلافه، أنه يُطلب من المكتبة التجارية الكبرى بأول شارع محمد على بمصر لصاحبها مصطفى محمد، ويهدى المؤلف كتابه إلى صاحب صحيفة البلاغ عبد القادر حمزة واصفاً إياه بالصديق الذي وصل جناحي وراش سهمي، وينتهي الإهداء بتاريخ كتابته ومكانه: مصر الجديدة في 18 أغسطس سنة 1931.

في خطاب لصاحبه القاياتي يتحدث واصفا الحال في القاهرة، ويمكننا هنا أن نلتقط إشارات تمثل تأريخا ما: أعود فأقول إنك ذكرتني بقهوة الحلمية وهى قهوة سخيفة لا هي بالجديدة ولا هي بالقديمة، ولا أعرف لأى سبب هجرتم من أجلها قهوتكم الأولى، التي كانت تسمى دار الآداب، ويظن أنها سميت بذلك من أجل حضراتكم، ولعنة الله على العقوق، وليس فيها قانون ولا عود، ولا يخطر ببال أهلها أن يستقدموا لها ولو مرة في السنة بديعة أو نعيمة أو أم كلثوم، ومن المحتمل فقط أن يكون صديقنا الأستاذ رامي يطرفكم فيها ببعض أغانيه وتغريداته". هنا التغريدات تظهر كمصطلح مبكر عن اللقطات التعبيرية ذات الجمل القصيرة والدالة.

وتحت عنوان "ضحايا السين" يقدم رؤيته التي لا تستسلم لفتنة باريس المدهشة: لا نتحدث هنا عن ضحايا الحب، وإنما نتكلم عن ضحايا الفاقة والبؤس .. يعيش أهل باريس في التطلع لبعضهم البعض، وحسد من يجد لقمته في الصباح وحساءه في المساء .. وليس في الدنيا مدينة يموت فيها الإنسان جوعا إذا نفدت دراهمه غير باريس وتشبهها لندرا وبرلين في هذا الجانب المظلم فليس ازدهار المدن في الواقع إلا متعة للأغنياء والموسرين، أما الفقراء فلهم من المدن المزدهرة حظ البأساء والضراء.

وهو يعالج ظاهرة ظل لها حضور ووطأة في الحياة الشرقية محددا أثرها الاجتماعي، وتتعلق بما يستقر في مخيلة عموم الناس وما يتوقعونه من البعض يقدمها وهو يتابع بعض الاحتفالات: ثم تكون هذه النكبة الاجتماعية التي درج عليها الناس، وتقضى بأن الجمهور لا يحترم الرجل الذى يشاركه في أسباب دنياه.. وقديما شك الناس في نبوة الأنبياء، لأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما حدثنا القرآن الكريم.

ثم يقدم لنا هامشا تاريخيا وإنسانيا فذا عبر حوار قصير مع بيرم التونسي، صاحب الأشعار والأغنيات الذى قابله في باريس هائما مشردا فقيرا يحمل حنينه إلى مصر باقيا، وتحت عنوان "باريس 29 يوليه 1929" : في طريقي إلى المنزل حديقة صغيرة يؤمها الناس من مختلف الطبقات، وأنا أخترق تلك الحديقة عند الغروب لمحت طائفة من الجرائد المصرية في يد إنسان لا أعرفه، وعلى وجهه مسحة من سماحة الشرق، هذا شاب قصير نحيل، متضعضع مهدود ، - أنت هنا منذ زمان ؟، منذ عشر سنين، - وماذا تصنع؟، عامل في أحد المصانع أنا محمود بيرم التونسي، فأتذكر صيف عام 1919 وكان شاغلاً لجميع الأندية المصرية، بمجلته الصغيرة اللاذعة (المسلة)، وأخذ يسألني عن مصر وعن الصحفيين الذين يطلبون منه أن يراسلهم مجانا وهو في أشد الحاجة الى المال، وعن الذين يستطيعون أن يسهلوا له سبيل العودة الى مصر ولا يفعلون، وقلت له: اسمع يا محمود أفندي سأكتب عنك مقالة، رد: هل ستكتب عن بيرم بعد أن نسيه الناس !.

إعلان

إعلان

إعلان