لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الخطاب السائد في التعليم الديني.. عيوب المضمون والشكل

د. عمار علي حسن

الخطاب السائد في التعليم الديني.. عيوب المضمون والشكل

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 21 نوفمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يشكل التعليم الديني في مضمونه وشكله خطابا، يصنعه أفراد أو مؤسسات، ويقصد متلقين يستقبلونه بعد طلبه، أو يُلقى عليهم أحيانا دون طلب، في إطار تفاعل التصورات الدينية مع مختلف جوانب الحياة. ويعيب هذا النوع من الخطاب، لا سيما أن كان منتجه ممن ينتمون إلى جماعات التطرف العنيف، ما يلي:

1 ـ المبالغة: فمضمون التعليم الديني وشكله يتسمان بالمبالغة الشديدة، إذ يبالغ من يقومون بالتدريس في إدراك وتصور دورهم الحياتي، وما في رؤوسهم من معرفة أو معلومات، ويبالغون كذلك في وصف الذين معهم، والذين عليهم، ومن لا يوافقونهم الرأي، وتمتد المبالغة إلى تقديس الزمان الذي ولى ورجاله، وإلى تثمين المعرفة الدينية التي تركها الأولون، ومنها إلى التأويلات التي ترد على ألسنتهم للنص القرآني وللأحاديث النبوية حول الثواب والعقاب، ويتعمد بعضهم التهويل في هذا بغية إخافة الناس أو إثارة فزعهم كي يستسلموا لمحترفي إنتاج الخطاب الديني.

2 ـ الصخب: قلما نجد مدرسا للعلوم الدينية لا يثير ضجيجا وهو يشرح ما يريد قوله إلى طلابه، حتى صار من يُحدِّث الناس في هدوء وسكينة ورويَّة، وينطق الكلام بعد تدبر نادر الوجود بين هؤلاء. فالصخب جزء من تكتيك يقومون به لجذب الأسماع ولفت الانتباه، أو لإضفاء أهمية على ما يقولونه، أو استمراء للطريقة التقليدية في الخطابة، لا سيما أن الألفاظ التي يطلقونها، تكون في الغالب الأعم، ذات إيقاع قوي.

3 ـ الحدة: فهذا الخطاب لا يكتفي بالصخب، في الغالب، إنما يطلق تصورات حادة، تتوهم انقسام المجتمع، بل العالم كله، إلى فريقين، أحدهما مع الإيمان، والآخر من الكفر، وبينهما يقف حدًا فاصلًا لا يتزحزح. وطالما أن "الآخر" قد وقع في جانب الكفار، فإنه مستباح، حيث يكتفي البعض باستباحة سمعته، فيخوضون فيها بلا ورع، وهناك من يزيد في تطرفه فيستبيح ماله، فإن انزلق إلى العنف استباح دمه، وقد يقدم على تنفيذ هذا إن أتيحت له الفرصة، وقد يحجم إن وجد ما يحول بينه وبين ذلك، كأن يكون المستباح له سند وظهير اجتماعي، أو تكون هناك سلطة سياسية ذات بأس وشكيمة لا تسمح لهؤلاء بترجمة ما في رؤوسهم من أفكار إلى عمل مادي عنيف.

4 ـ النفعية: فالتعليم الديني عند قلة هو عمل يؤجر عليه من الله سبحانه وتعالى، هدفه الارتقاء بنفوس الناس وامتلاء أرواحهم وسمو أخلاقهم وحضهم على عمل الخير، وعند الأغلبية إما وسيلة للتعبئة والتجنيد السياسي، كما تسعى الجماعات الدينية السياسية، أو طريقة لكسب الرزق، وتحصيل المكانة الاجتماعية. وبمرور الوقت يتحول هذا الصنف من المعلمين إلى تقديم النفع المادي على الجانب الرسالي أو الدعوي للمعرفة التي يطلقونها.

5 ـ التقليدية: هو خطاب تقليدي مكرور، يفر، في الغالب الأعم، من كل جديد ومغاير، ويستمرئ إعادة أو اجترار ما سبق أن قيل آلاف المرات، وكأن اللاحقين لا يفعلون شيئا سوى تقليد السابقين، في سمتهم وكلامهم، دون الأخذ في الاعتبار ما يطرأ على الأزمنة والأمكنة من تغير.

6 ـ المحافظة: فنظرا لأن هذا التعليم ينهل من معين قديم، فإن ما ينطق به المعلمون أو يكتبونه، ليس بوسعه أن يساير العصر في كل شيء، فهو بالأساس عبارة عن إجابة عن أسئلة زمن مضى، بينما لزماننا أسئلته المختلفة تماما. وفي ركاب هذا لا يراعي هذا الخطاب تغير القيم وأنماط العيش وطرائقه، إلا نادرا، وهو يحاول أن يجذب أي نزوع للتغير والتحرر إلى مساحة من الجمود.

7 ـ التأزم: فهذا التعليم الديني يسري في أوصال شعور دائم بالأزمة عند منتجيه، حين يدركون أن المسلمين قد تخلفوا بينما تقدم غيرهم، وهم يعزون ذلك ليس إلى إهمال العلم، ووضع المتشددين له في صراع مع الدين مثلما كانت أوروبا أيام جهلها، إنما إلى ترك الإسلام، ونشدان العزة في غيره. ومثل هذا الشعور يجعل هؤلاء في سباق مع الأيام في سبيل استعادة المنعة والقوة المفقودة، بأي صيغة أو طريقة، دون عناية حقيقية بحيازة أسباب النهضة، فلا ينجم عن هذا إلا نوع من التشنج والتعجل وشيوع ثقافة الكراهية للآخر، والتعصب إلى ما تمت حيازته من معرفة دينية، أو انتماء إلى جماعة دينية معينة، علاوة على التمترس عند الهويات الجامدة والتمسك بالتصورات النمطية ذات الرؤية الواحدة، والوقوف عند الخلافات التي تثير الصراعات وإهمال المشترك الإنساني. وينقل المعلمون تأزمهم إلى طلابهم، فيزيد بينهم الحنق والشعور بالضعة والدونية، الذي يعمق في نفوس بعضهم رغبة للانتقام.

8 ـ التلفيق: فكثير من هذا الخطاب قد يدعي أصحابه أنهم يسعون إلى التوفيق بين القديم والجديد، وبين التراث والمعاصرة، وبين مختلف الاجتهادات الفقهية والتفسيرات والتأويلات، لكنهم في حقيقة الأمر يقومون بتلفيق كل هذا، لا سيما لدى من يجمعون في عجالة قشورا من علوم الدين، يرتزقون بها، أو يوظفونها في تعبئة الجمهور حول مقاصدهم السياسية. لهذا نجد في كتب التعليم الدينية تمثيلا لهذا التنوع الزائف، الذي لا ينجم عن إيمان بالتعددية، أو عن سعة إطلاع على مختلف الاتجاهات والآراء الدينية، بقدر ما هو منقول من كتب شتى. لا يعني هذا أن من بين منتجي الخطاب الديني من لا يعرفون طريقهم جيدا، ويعتنقون اتجاها بعينه ويخلصون فقط لرجاله، لكن الخطاب السائل في المجتمع الذي يخرج عن أصحاب الفرق والاتجاهات، لا يعتصم بمسار واحد، إنما تتقاطع فيه دروب كثيرة.

9 ـ الإطلاقية: ويعود هذا الإطلاق إلى جوهر الدين نفسه، إذ إن منبعه مطلق في قدراته وأوصافه، وغاياته ومقاصده منزهة عن أي نقص، ومبرأة من أي قصور. عند هذا الحد لا تثار مشكلة، إنما تحدث حين يتوهم البعض أن الإطلاقية قد حلت فيهم، وأنهم يجسدونها ويمثلونها، وينطقون بها، ويتصرفون على أنهم وكلاء الله في الأرض، فيحللون ويحرمون، ويقررون من يرفل في نعيم الجنة، ومن يشقى في جحيم النار، ويتحدثون في ثقة متناهية، بل غرور تام، على أن ما يقولونه هو الحق والحقيقة، لا لبس في هذا ولا تشكيك. ويشكل هذا جدارا يصدون به أي رأي مخالف، ويكبتون أي محاولة للتفكير في مدى علمية أو استقامة أو حتى موافقة ما يقولونه للدين، وينعتون من يريد هذا بأنه فاسق مارق خارج عن الملة.

10 ـ الإقصاء: فمن الطبيعي أن "العقل المطلق" يودي بأصحابه إلى إقصاء من لا يسلمون بمزاعمه عن امتلاك الحقيقة، فمثل هؤلاء الرافضين يجب استبعادهم، بعد تشويههم وتجريسهم والعمل على نزع أي قيمة علمية أو أخلاقية أو دينية عنهم. فالذين ينتجون التعليم الديني لا سيما إن كانوا من بين المتشددين، يعملون بعزم لا يلين على إسكات أصوات المختلفين معهم، حتى لا تعوق مساعيهم إلى السيطرة على عقول الناس، بأي شكل من الأشكال.

وفي العموم فإننا لو راجعنا المناهج والكتب المعتمدة لآلاف المدارس الدينية ومعاهدها ومراكزها المنتشرة على امتداد العالم الإسلامي سنجدها جميعا بعيدة عن علوم ومعارف وثقافات العصر، ومعزولة عن أهداف الناس واحتياجاتهم، وتلقن الطلاب رأيا فقيها أحاديا، يقدم نفسه بوصفه حقيقة لا تقبل النقاش ولا الجدل ولا الاختلاف في الرأي، وتركز على تدريس مغلوط لبعض القضايا والمفاهيم مثل الجهاد والحسبة والولاء والبراء والحاكمية والشريعة والخلافة .. إلخ، وتختار من الآراء الفقهية أكثرها غلوا وتشددا، وتنغمس في الغالب الأعم في خلافات حول أمور شكلية، تتعلق بقشور الدين ومظاهره، لا لبابه وجواهره.

إعلان