لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"العطش".. هذا الجمال المُربك

"العطش".. هذا الجمال المُربك

د. ياسر ثابت
09:00 م الثلاثاء 12 ديسمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بلا تمهيد، تفرض رواية "العطش"، للروائية الهولندية إستير خيريتسين، نفسها على القارئ، ليجد نفسه أمام نموذج رفيع للرواية الهولندية المعاصرة.

رواية بلا أي زوائد أو تكرار ممل، كما لو أن كاتبتها اعتصرتها من روحها، ثم قدمتها للقارئ كي يعرف معنى الكتابة التي تقع في منطقةٍ ما بين الشعر والنثر. إنها رواية مشهد معاصر يتناول أوروبا الآن، ولا تجعلك قصتها المحلية تفقد اهتمامك بمساراتها الإنسانية الفريدة التي تخترق الروح بذكاء.

في "العطش" الصادرة عن دار صفصافة في القاهرة، وبترجمة ممتازة للمترجم عبدالرحيم يوسف، نطالع قضايا عصرية في هولندا والمجتمع الأوروبي بشكل عام، صاغتها خيريتسين برشاقة وحرفية، تبدأ من تلك العلاقة الشائكة بين أم تحتضَر وابنة غير مكترثة، وسط تفكك عائلي، وفردية مُربكة.

في هذه الرواية التي تعد مثالًا كاشفًا على الأدب الهولندي المعاصر، تبدأ الرواية بلقاء مفاجئ بين الأم وابنتها في شارع عام، وإعلان خبر المرض الذي يفتك بجسد الأم، دون تعليق أو تعاطف يُذكر من الابنة، التي سرعان ما نكتشف عوالمها وأسرارها الخاصة عبر صفحات الرواية.

من نقطة الضعف الإنساني، والحاجة إلى المكاشفة، ينطلق قطار الرواية التي تقع في نحو 275 صفحة من القطع المتوسط. وما بين الأم "إليزابيث" والابنة "كوكو"، مسافات ومساحات جليدية، لم يتمكن حتى مرض الموت من تذويبها.

نكتشف في صفحات الرواية شخصية "كوكو"، التي ترسمها خيريتسين في أحد المشاهد كالتالي:

"لا تقول كوكو أي شيء. هي لا تعرف إذا ما كان الأمر مهمًا أم لا. يبدو الأمر مثل ورقة رابحة يمكنها أن تلعبها مرة واحدة فقط. وستحتفظ بها".

حتى في علاقتها مع رجل في منتصف العمر، يدعى "هانز"، تبدو هذه الشابة ميّالة إلى الغموض وخارج نطاق التوقعات، حتى أنها حين تعرفت إليه في مغسلة عامة، كانت المبادرة إلى كسر الجمود الذي بينهما بلا سابق ترتيب.

ورغم أنها جففت وطوت غسيلها الشخصي تلك الظهيرة، فإنها أعطت صاحب المغسلة يورو بعد ذلك، مع رقم تليفونها، حتى يتصل بها في المرة المقبلة التي يأتي فيها الرجل العاجز ليقوم بغسل ملابسه. لقد أحبته على الفور، بشكل قاطع. إذن ها هو ذا، فكرت مثل أم تنظر إلى طفلها الوليد. إذن ها هو ذا. لم يكن هناك شيء أكثر من ذلك يجب القيام به.

في تلك المرة الثانية من المغسلة، لم تأخذ عن عمد غسيلًا كثيرًا معها.

أومأت إلى حقيبتها. وقالت: "لو لم يكن الأمر شديد الحميمية، لأمكننا أن نضع كل شيء في ماكينة واحدة فقط". وابتسمت إليه بطريقة "بنتوتية"، معطية إياه فرصة أن يلعب دور البطل الفاتح. أخذ حقيبتها منها بحزم ووضع غسيلها في ماكينته. فيما بعد سيقول إنها كانت فكرته.

في المرة الأولى التي رتَّبا فيها للقيام بشيء ما سويًا، أعلن إليها الأمر ببساطة: "سنخرج للعشاء. وسأدفع". بدا الأمر كمنحة. كانت مستمتعة بأنه يلقي إليها أوامره هكذا، ولأنها وجدت الأمر ممتعًا، فلم تُبالِ بأن تُلقى إليها الأوامر. (ص 24-25).

ولكن ماذا عن الأم التي تحتضر؟

أول ما يلفت انتباهك، بعد تلك العلاقة المأزومة بينها وبين ابنتها، هو علاقة إليزابيث مع الحلاق في محل الكوافير. إنه أول من تبلغه بخبر مرضها، وهو الذي تناقش معه علاقتها مع ابنتها "كوكو"، باعتبارها تقص شعرها عنده أيضًا. هنا يدور الحوار بين إليزابيث والحلاق كالتالي:

"إنها تكبر، أليس كذلك؟"

"ثلاثة وعشرون الآن".

"قصدت "ثقيلة"، "ضخمة"، "سمينة".

"نعم، حسنًا، إنها فقط تستمر في النمو".

"صحيح".

"لا ينبغي على الأشخاص السمينين أن تكون شعورهم قصيرة للغاية".

"قلت هذا أيضًا، لكنها تريده قصيرًا".

"قصير إلى هذا الحد؟".

"ربما ليس قصيرًا إلى هذا الحد". يحضر الحلاق منشفة ويجفف شعرها.

"لماذا يقص الحلاقون دائمًا أقصر مما تريد؟".

"لو لم أفعل ذلك لانتابني شعور بأني لم أفعل أي شيء في الحقيقة".

"أوه، صحيح". (ص 34 - 35)

في هذه الرواية الأخاذة، هناك قيمٌ عصرية، وأزمات إنسانية، وعلاقات مرتبكة، تأخذك إلى مناطق جديدة، بحساسية مختلفة، تجعل منها رواية فريدة تستحق القراءة.

إعلان