لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

رقصة الحياة

رقصة الحياة

ياسر الزيات
09:00 م الأربعاء 15 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

حضرت حفل زفاف هولندياً، للمرة الأولى منذ حضوري إلى هولندا قبل أربع سنوات. كان حفل زفاف صديقي، وهو صحفي هولندي يعمل في إذاعة شهيرة، تعرفت عليه في مصر أيام الثورة، ثم قويت صداقتنا عندما انتقلت للعمل والحياة في هولندا. وصلتني الدعوة قبل موعد الحفل بحوالي أربعة أشهر، باليوم والساعة والعنوان، مع وعد بإرسال خريطة الوصول إلى المكان لاحقاً. هذه دقة هولندية اعتدت عليها، فهم يخططون لكل شيء قبل موعده بوقت أكثر من كاف.

يعرف الهولندي أين سيقضي عطلته في العام القادم أثناء وجوده في عطلة العام الحالي، وربما يكون قد اشترى تذاكرها أيضا، لأنها ستكون أرخص بالطبع. وذات مرة، أرسل لي "باس"، وهذا اسم العريس، رسالة على فيسبوك يقول فيها: "سأكون في لاهاي يوم كذا، الساعة الواحدة والنصف ظهراً، فهل لديك وقت لنلتقي؟"، وكان الموعد، بلا مبالغة، بعد شهرين، فأجبته إجابة شديدة الاختصار: "هاي باس، أنا مصري".

ليس من السهل أن يتخذ الهولنديون قراراً بالزواج. كان لدي زميل في إذاعة هولندا العالمية قال للمرأة التي يحبها إنه سيتزوجها إذا عاشا معاً عشرين عاماً، وهذا ما كان. عاشا معاً، وأنجبا، وكبر أبناؤهما، وحضروا حفل زفافهما، بعد عشرين عاماً من الوعد. لا يتزوج هولنديان إلا إذا كانا يرغبان بالفعل في ذلك، وباختيار حر كامل، بدون أية تأثيرات أو ضغوط خارجية أو ذاتية. الفكرة هنا هي الاختيار الحر الكامل، والإدراك بأن هذا الشخص هو من تريد- بكامل حريتك وإرادتك- أن تعيش معه دائماً، لا لأي سبب آخر. لا تصلح الوحدة دافعاً للزواج، ولا الرغبة الجنسية، ولا الرغبة في الإنجاب، لأن الزواج قرار يقوم على مشاعر ناضجة وأفكار أكثر نضجاً، ووعي حقيقي باحتياجاتك من العيش مع شخص آخر، واقتسام نصف حياتك معه.

كان حفل زفاف "باس" في مزرعة ريفية بسيطة بعيدة عن أي عمران. وتخيلت- رغم معرفتي بحرص الهولنديين في الإنفاق- أنني سأحضر حفل زفاف فخماً، لكنني فوجئت بالبساطة الفخمة التي اتسم بها. لم يزد المدعوون على 80 شخصاً، هم الذين يعتبرهم العروسان أقرب المقربين إليهما، بمن في ذلك عائلتاهما وأصدقاؤهما. ولاحظت أن الحفل ليس فيه مصور فيديو، ولا مصور فوتوغرافيا محترف، واكتفى المدعوون باستخدام موبايلاتهم في التصوير كأنهم في رحلة عادية. هنا يفضلون أن تحتفظ باللحظة داخل روحك، وأن تغلق عينيك لتتذكرها وتعيد تذوق طعمها وشم رائحتها وسماع أصوات الضحكات نفسها، في خيالك، لتميِّز بين ضحكة فلان وضحكة علان. الحياة، بالنسبة لهم، هي ما تستطيع استعادته بسعادة تجعلك تبتسم في لحظة التذكر. الحياة بسيطة لكنها عميقة.

وأنا لا أجيد الرقص، لكنني عندما أرقص أترك جسدي للموسيقى، وليكن ما يكون. وفي ذلك الحفل، كنت أرقص في ركن من المزرعة عندما لمحت سيدة يتجاوز عمرها الخامسة والسبعين واقفة تحرك قدميها، في مكانها، على الموسيقى. مددت يدي لها، ودعوتها للرقص معي. كانت السيدة ترقص بسعادة اعتبرتها طبيعية، لكنني اكتشفت لاحقاً أنها خضعت قبل أسبوعين من الزفاف لعملية جراحية، وأن هذا لم يمنعها من الرقص. واكتشفت- كذلك- أن هذه السيدة هي جدة العروس. وقالت لي العروس لاحقاً إن جدتها عاشت أسعد لحظاتها في تلك الرقصة، وإنها ظلت تتحدث لأسبوعين عن طريقة رقصي، والتكنيك الخاص بي في الرقص. وحقيقة الأمر أنني لا أجيد الرقص أصلاً، ولا أمتلك تكنيكاً ولا يحزنون، وأن كل الحكاية أنني تركت جسدي للموسيقى، ولرغبتي في مشاركة لحظة سعيدة مع امرأة عجوز. كل ما في الرقص هو أن تحاول أن تجد خطوتك، وأن تحاول أن تضبط إيقاعك على إيقاع الآخر، وخطوتك على خطوته. وهذه- باختصار- هي رقصة الحياة.

إعلان