لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

خواطر.. على حافة العقل والجنون!

خواطر.. على حافة العقل والجنون!

11:34 ص السبت 17 سبتمبر 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد أحمد فؤاد:

أغلب الأشياء حولنا إن لم تكن كلها تدعو للدهشة حتى الشرود، فإنها على أقل تقدير تدفع المرء دفعاً نحو حافة الجنون.. لن أرهق ذهني وذهن القارئ الكريم بمحاولة استعراض الأسباب لكثرتها، ولظني أنها لا تحصى أو تُعَد.. لكن لماذا لا نجرب أن نرحل معاً في رحلة هادئة بين ضفتي العقل والجنون مع الخواطر، لعلها تأخذنا لمربط المعاني الحقيقية لأمور هامة في حياتنا؟ أو ربما تصل بنا إلى المنتهى الأكثر أريحية للعقول المثقلة بهموم أمس واليوم وغداً.

أبدأ بسؤال من حيث ما أراه ملمح شديد الخطورة: ماذا أصاب الأجيال الجديدة؟! هذا الكسل والعجز الفكري الملحوظ أمام مغريات الحداثة التي حرمت العقول متعة التأمل والخيال.. كثيرون يعتقدون أنهم غير جديرين بخلق أشياء جديدة أو ربما فقدوا حاسة التنافس من أجل التحسن، وتجدهم يفضلون انتظار التحديثات المستمرة لما لديهم من وسائل الرفاهية المتاحة، تلك التي أحسبها أعجزتهم عن إثبات قوة عنفوانهم وقدراتهم الذهنية والبدنية..! 

الواقع أن ظواهر هذا الكون بكل جوانبها لا يمكن أن تكون وليدة المصادفة، لكنها تأتي نتيجة تفاعل القوى المختلفة بما في ذلك القوى البشرية.. وحين يتقاعس البشر عن هذا التفاعل ويفضلون الانتظار، تتراجع فوراً كل مقومات التحضر والإبداع، وتحل محلها أنماط مختلفة من الأنانية والعنصرية المقترنة بالعنف..!

واذا كان من الممكن توصيف الجنون على أنه مخالفة ما جرى عليه العرف بين الناس، فالنبوغ إذاً نوع من الجنون.. النابغة يستهين عادة بالتقاليد والأعراف المتداولة بين العامة، ببساطة لأنه لا يرى سبباً للتمسك بها أو حتى مجرد تملقها، هذا لأن بعضها أو كلها من وجهة نظره عقيم في ذاته، أو لأنه كان صالحاً أو ضرورياً في زمن من الأزمان ثم أصبح غير ضرورياً في الوقت الحاضر.

ولنعترف بالحقيقة.. نحن نفكر بعواطفنا لا بعقولنا، وهذا هو الخطر الأعظم.. فالعواطف عادة لا تجيب إذا ما سألناها "ماذا بعد؟" وهي في الحقيقة انفعالات جسدية لا سلطان لأعمال العقل عليها، وهي في الإنسان راجعة إلى أقدم عهده بالهمجية.. بل بتعبير أدق الحيوانية الأولى حين كانت أغلب أعماله وميوله وأطواره أفعال تقوم بها وظائف جسده بطريقة تلقائية حسب مطالبها من سد جوع أو ري ظمأ أو قضاء شهوة أو دفع أذى وغيرها.. فالإنسان الهمجي مثله مثل الجاهل تتدافعه الغرائز والأحاسيس السامية أو الخسيسة حيث لا مجال للتروي أو التفكير أو التأمل بينها.. لكنه في المجتمعات الراقية نوعاً، حيث يرتبط مع بقية الأفراد بواجبات وأصول إجبارية، لا يعود حيواناً مرسلاً مع أهوائه وشهواته، وتجده مضطراً بحكم البيئة إلى الضغط على عواطفه انصياعاً لأحكام المصلحة والعقل، ويزداد ذلك الشعور كلما ازداد الإنسان حاجة للتعقل والاستغناء عن القوة البدنية لدواعي حفظ الذات.. الخلاصة أن الهمجية تتوارى وتختفي حين يسود حكم العقل على جميع أعمال الإنسان...

ثم إلى الفلسفة.. كثيرون هم من يظهرون في حياتنا اليومية في شكل وعاظ أو خبراء أو مستشارين..! من هؤلاء؟ ومن أعطى لهم الحق في الإمساك بمفاتيح التحكم والتوجيه للبشر على اختلاف مذاهبهم.. وبأي مقابل..؟ إن المعلم الأول أو الفيلسوف هو رسول للجميع على السواء.. ينتصر للعقل ويدافع عن الحق، لا يهدف للتربح أو انصاف فئة على حساب أخرى، ولكن يهدف للإصلاح في العموم.. وليس الفيلسوف صاحب مذهب شاذ أو غريب، أو متنطع يبحث عن الشهرة بشكل مثير للجدل، ولا هو بالرجل واسع الاطلاع أو المتفوق على غيره في ملكاته ومواهبه.. المُعلم أو الفيلسوف الحقيقي هو باحث لا ينشد إلا الحقيقة.. ينشدها لا ليراها في شكل منتظر أو هيئة مرموقة، ولكن لتظهر أمامه طبيعية كما هي بالوجه الفعلي الذي تظهر به في كل حين.. عارية ومجردة عن أي زيف أو إضافة قد تجلبها مخيلته أو موروثاته ومعتقداته، وهي دائماً حُرة لا تخضع لأغراض أو أهواء.

نشكو يومياً من التعصب وتبعاته.. ونحصد ضحاياه يوماً بعد يوم بشكل مؤسف..! ماذا حدث للبشر؟ وما كل هذا العنف والعدائية المقترنة بصراع الحضارات والأديان..؟ 

هل يعني أي دين بممارسة العنف ضد الأخر..؟ كيف إذاً نضمن لهذا الدين أو ذاك الاستمرار إذا ما ظهر دين أقوى منه وأعنف..؟ الأمر إذاً لا علاقة له بالدين أو المعتقد.. لابد وأن هناك أسباب أخرى وراء ظاهرة العنف، فطبيعة الدين ليست عدائية وإن ظهر لأول وهلة بأن في هذا القول شيئاً من مخالفة الواقع.. فإذا كان حفظ الذات هو أقوى غرائز النفس البشرية، والعواطف المتفرعة عنه من أقوى العواطف التي تتحكم في سلوك الإنسان بقدر ما تُمَس تلك الغريزة، فإن الإنسان بفطرته في حالة سلم مع بقية الأفراد في المجتمع، والنزاع يأتي دائماً كأمر عارض يطرأ عن اشتراك فردين أو أكثر في الحاجة إلى شئ ما لا يظفر به إلا من يتغلب على الأخر.. وعدم ظفر أحد الطرفين بهذا الشئ، أو على العكس عدم قدرته على الاستغناء عنه يحسب في ذاته إعلاناً من كل منهما صريحاً بإشهار الحرب إلى أن يصل أحدهما إلى مأربه..

والدين باعتباره عقيدة مجردة، لا يقتضي نزاعاً بين الناس إلا إذا تجاوز حيز العقائد إلى النواحي المادية التي تتداخل ومعاملات الإنسان.. تماماً كما روى التاريخ عن الأمم المتأخرة التي جهلت أو تجاهلت عن عمد العلاقة الحقيقية بين الأسباب والمسببات.. وقد شاهدنا ذلك جلياً في قصص أمم القرون الوسطى وما تقدمها من عصور الجهل وسيطرة الكهانة والسحر..

مر عهد ليس ببعيد حين كانت الصلة بين العاطفة الدينية وغريزة حفظ الذات من أحكم الصلات، لا بالنظر لما كان فقط من حوادث تاريخية، بل بالتأمل في حياتنا الحالية أيضاَ.. كان كل شئ في ذلك العهد إنما يحدث بإشراف القوى الخفية مباشرة، لكن لا نفوذ لتلك المساحة إلا من خلال وسيط وحيد هو رجل الدين العالم ببواطن الأمور..! فكان للسحاب من يسوقه من بلد إلى أخر، وللرياح والبحار خزنة يصرفونها بتقدير ويمسكونها بتقدير.. وكانت الظواهر الكونية من كسوف وخسوف وهالات ومذنبات ورجوم تُرصد من الأرض تارة كأنها إنذار السخط وتارة كأنها علامة الرضا.. وكانت الطواعين والأوبئة والمجاعات والصواعق والزلازل والطوفانات وغيرها من الكوارث الطبيعية تُفسر كأنها نقمة الله حاقت الجنس البشري عقاباً له على طغيانه وعصيانه..!

لنُسَلّم جدلاً بأن كل تلك الظواهر تخضع للتدبير الإلهي، وقد يكون بعضها مترتباً على اختبار لمقدار تحمل البشر من عدمه، أو ربما لدى البعض الأمر هو عقاب مرهون بمخالفة الإرادة الإلهية.. يظل السؤال مطروحاً: ما هي مبررات وجود طوائف من البشر "رجال الدين" تَدَّعي اصطفاء الله لها من بين خلقه ومنحهم حقوق الوصاية على البشر، واختصاصه لها بعلم ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه فلا ترد لهم كلمة..؟ ففي العهد الذي حفل بكل هذه الجهالات سالفة الذكر ما كان من الغريب أن يندفع الناس إلى الشقاق بسبب الدين، بل في الحقيقة بسبب كل شئ ومن أجل كل شئ يمكن أن يكون باعثاً على الشقاق، لأن هذا كان معنى الدين وطريقة توظيفه في تلك العصور التي حفلت بالظلامية والجهل والخوف من المجهول..

اليوم وقد وصلنا إلى أعلى مستوى من المعرفة والعلم، ونجحنا في إيجاد تفاسير منطقية لأغلب الظواهر الكونية، وعبرنا لدرجات غير مسبوقة من الحضارة والمدنية، ما الداعي إذاً أن يظل بيننا من يستخدمون نفس منهج الكهانة العقيم في السيطرة على العقول وسلبها حرية الفكر والتجربة والاختيار مقابل أجر معلوم..؟

إعلان