إعلان

أحمد سعيد.. أحلام الحرية هاربة من القضبان

أحمد سعيد

أحمد سعيد.. أحلام الحرية هاربة من القضبان

03:17 م الثلاثاء 23 فبراير 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كتب - محمد جبريل:
من ذكريات بعيدة مرتبطة بالطفولة، عصية على الاستئصال، حيث لا يمكن للزمان محو الذاكرة، تأتي التفاصيل الصغيرة التي شكلت وجدان هذا الثائر العاشق، وتلك الأخت العطشى للاطمئنان على أخيها، حميمية تلك الذكريات إلى أبعد حد، حاضرة وباقية تغطي واقعًا مُرًا بأملٍ في غد أقل قسوة.

تتذكر لمياء شوقًا ووجعًا، ولمياء عادية جدًا تشبهنا تمامًا، مواقف من طفولتها مع أحمد.. تقول:

"أحمد ليس ناشطًا سياسيًا، تحمل المسؤولية في صغره، كان مجتهدًا جدًا، لدرجة أن أساتذته أطلقوا عليه لقب (العبقري)، حصل على 100في المئة في الثانوية العامة، كان مهتمًا بالفلسفة وعاشقًا للموسيقى ومحبًا للتاريخ، رغم أنه دخل كلية الطب جامعة المنصورة إرضاءً لوالديه، وكان يحصل كل عام على تقدير امتياز، وبعد تخرجه عمل نائبًا في مستشفى جامعة المنصورة، وأثبت تفوقًا ملحوظًا في عمله حتى قال له أحد زملائه: أنا لن أصدق أن لهذه البلد مستقبل إلا إذا أصبحت أنت وزيرًا للصحة".

وتتابع "هو الذي قام بتربيتي، كان قدوتي العلمية وأستاذي منذ الصغر لم أسأله عن شيء إلا وأجابني عنه فهو لم يتوقف يومًا عن القراءة، أصدقاؤه كانوا يسمونه سيزيف، لأنه لم يكف أبدًا عن محاربة طواحين الهواء، حتى صفحته التي كان ينشر من خلالها أشعاره على فسيبوك سماها "دون كيشوت"، أمه كانت تدعي له قائلة: ربنا يحبب فيك خلقه، هو بطبعه كان محبًا للناس ودائمًا ما يخلق لهم الأعذار".

وتستكمل "كتب الشعر في مرحلة مبكرة من حياته كان سنه وقتها 12 عامًا، وعندما نضجت تجربته الشعرية استطاع مزج الشعر العامي بالفصحي ومزج الاثنين بالفلسفة، يتحدث 3 لغات: الألمانية والإنجليزية والبرتغالية".

حزن، قلق، وحشة، وحدة، غياب، فقدان، تقاسيم على وتر قلبها، الغياب بطل القصة، تدريجيًا شيء ما ينطفئ في الروح، لكن الكلام عن الغائب يمنع ضمور الروح بالكامل.. تقول:

"سافر إلى السعودية وعمل بها لمدة سنتين، حتى عاد في أيام الثورة الأولى، نزل من المطار على ميدان التحرير دون أن يخبرنا، استقال من عمله في المملكة وظل في الميدان طوال أيام الثورة يداوي المصابين في المستشفيات الميدانية".

وتضيف: "يوم تنحي مبارك هو آخر يوم رأيت فيه الفرحة في عيني أحمد، وفي أحداث محمد محمود رأى الشباب يقتلون أمام عينيه، قال لي ذات يوم إنه رأى لحظة إصابة أصحابه بالرصاص".

"في الانتخابات الرئاسية بين مرسي وشفيق قاطع التصويت، ودخل في حالة من الاكتئاب، وسافر بعد فوز مرسي إلى ألمانيا وبدأ يركز في عمله،" تؤكد لمياء.

صادقة على نحو يجبرك على التورط في التعاطف معها، تثق لمياء أن روحها أقوى من اليأس، وأن شاعرية أخيها أقوى من الجدران، تؤمن أن القهر الحقيقي هو أن تعيش منزوعة الأحلام بوطن أقل قسوة على أجسادهم وأحلامهم، وأقل تلوثًا وتشوهًا بالطغيان.. تقول:

"لما كان في عابدين تعرض لتعذيب مرعب، ومع ذلك كان بيطلب مننا أدوية عشان المساجين، وأمناء الشرطة والضباط.. "كانوا بسموه طبيب الحجز".

وتؤكد: "أحمد كان لازم يشارك في الوقفة لأن محمد محمود بتعني له الكثير، التهمة مش تذكير الناس باللي حصل، التهمة هي النسيان".

"كان ديمًا بيقول: أنا انتمائي لكل مستضعف مظلوم أيَّا كان جنسيته أو دينه وضد كل سلطة ظالمة ولو من نفس جنسي أو ديني".

وتضيف: "أيام أحداث بورما أضرب عن الطعام لمدة شهر وكانت حالته النفسية صعبة جدًا، ويوم ما انتشرت صورة إيلان الكردي الغارق على شواطئ تركيا أُصيب بالاكتئاب، وكذلك أثناء هجمات فرنسا، أحمد تعريفه الوحيد أنه إنسان وبس".

"كان بيعمل عمليات في مصر بدون أجر، وكان نفسه يفتح مستشفى خيري، أحمد لو شاف قطة أو كلب مريض في الشارع كان بيجيبه معاه في البيت ويعالجه، وحتى الآن فيه قطة ان بيعالجها لسه موجودة عندنا، بعد ما اُعتقل وسابها".

لا قراءة، لا دواء، لا دفء، لا حرية.. تقول لمياء:
"يتعرض أحمد لمضايقات لا تحصى من الأمن والمحبوسين على حد سواء.. لا كتب، لا ورق، لا قلم، لا مراجع علمية.. وزنزانته مليئة بالجهاديين والتكفيريين، نأمل إعادة التحقيقات معه أو نقله إلى سجن آخر بالقاهرة".

وتضيف "أحمد محبوس في قضية جنح، بسجن العقرب شديد الحراسة، على خلاف القانون، حيث حكم عليه بالمادة 19 وهي مادة تختص بالشغب وتهديد السلم العام وقطع الطريق، ولأن هيئة النقل العام نفت قطع الطريق أثناء الوقفة التذكارية التي شارك فيها أحمد، انتفى بذلك مشروعية محاكمته بهذه المادة وكان من الأولى محاكمته بمادة 21 المختصة بالتظاهر دون إذن".

"الثورة كامنة في قلوب من حملوها وهي مهزومة ومنكسرة لا على أكف من هللوا لها وهي منتصرة"، يقول أحمد سعيد.

وتقول لمياء "كان في مستشفى في ألمانيا يقولون له إن قدراتك أعلى مما نحتاجه، وتعجبت إدارة المستشفى من عدم حصوله على تكريم في بلده".

وتضيف: "قام بإجراء عمليات عديدة هناك وحصل على أكثر من تكريم في فرانكفورت، كان مشكلتنا معاه أنه ما كنش بيسيب البلد حتى في الظروف الصعبة، كما بننصحه أنه ما ينزلش".

"لما كان في برلين كان بيروح الشوارع اللي فيها عرب ومصريين، وكان آخر مرة جاء فيها مصر كان عشان يخلص ورق، كان يقدر يعمله من هناك لكنه كان حابب يجي مصر، وكان هايسافر بعد يومين من تاريخ القبض عليه".

عندما ينام الجميع يبقى أحمد يقظًا، ربما يبكي مستغلًا أن أحدًا لا يراه، فالبكاء هو أفضل ما يغسل أدران القهر العالقة بالروح. لن يشعر بالندم على وجوده الآن وهنا في السجن، لكنه يشعر بالبرد في زنزانة التي تقهر 12 سجينًا، يرقد على الرخام على مساحة شبر وقبضة يد، بلا أي غطاء، فالرخام اختير خصيصًا لاستكمال مسيرة التعذيب. يشد أطراف البنطلون كي يغطي ما يمكن أن يصل إليه القماش من ساقيه.

يقول ليست هذه الغرفة لي، غريبة عني، ومن الوقاحة أن تجبر أحدهم على النوم في مكان لا يشبهه، لكن للسجن ضروراته. يخيم على الغرفة جو ثقيل، بارد كما الرصاص، يتدفأ بالحنين إلى أمه وأخوته ورفقته بالخارج، وإلى وطنٍ ظل يحلم بأن ينتهي فيه القهر والأحزان.

إعلان

إعلان

إعلان