كل ما تحتاج معرفته عن "ديب سيك"، الثورة الصينية التي تتحدى التكنولوجيا الأمريكية
بي بي سي
ربما لم يتخيل أحد الخبراء في عالم الذكاء الاصطناعي أن تتمكن الصين من التغلب على الحظر التكنولوجي المفروض عليها، وأن تقدم للعالم روبوت دردشة يتصدر قائمة التطبيقات التي أقبل المستخدمون على تحميله من المتاجر الإلكترونية، بما أثّر على السوق التكنولوجية الأمريكية.
فقد استطاع "ديب سيك" أن يحظى باهتمام صناعة التكنولوجيا بأكملها في الولايات المتحدة وخارجها، منذ أن صدر في 20 يناير/كانون الأول، وتقول شركة "سنسور تاور" التحليلية إن التطبيق حقق 3 ملايين عملية تحميل منذ إطلاقه.
وعلى الرغم من الحظر المفروض على تصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين، إلا أن بكين تغلبت على هذا التحدي وتمكنت من صنع روبوت تقول إن تكلفته لا تساوي شيئاً أمام تكلفة "تشات جي بي تي" التابع للشركة الأمريكية "أوبن إيه آي".
وقد تسبب هذا في خسارة شركة "إنفيديا" العملاقة لصناعة الرقائق، لما يقرب من 600 مليار دولار (أي نحو 482 مليار جنيه إسترليني) من قيمتها السوقية يوم الاثنين، فيما تعد أكبر خسارة في يوم واحد في تاريخ الولايات المتحدة.
وقد بات التطبيق الصيني حديث الساعة، حتى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قال إنه بمثابة "جرس إنذار" للشركات الأمريكية التي حثها ترامب على أن تركز اهتمامها على "التنافس في سبيل الفوز".
وجدير بالذكر أن بكين ضاعفت جهودها مؤخراً في هذا المضمار، حيث أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج أن الذكاء الاصطناعي يمثل أولوية قصوى، بعد أن كانت البلاد تعتمد على الصناعة التقليدية للملابس والأثاث وغير ذلك من الأدوات التي اشتهرت بها الصين.
وقال زياد عبد الوارث، الطالب بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، لبي بي سي إنه وزملاءه قاموا بتحميل التطبيق مؤخراً بهدف قياس قدراته ومدى جودته وسرعته، لكن الأمر يحتاج "حديثاً مطوّلاً مع الروبوت لاختبار قدرته على التركيز في المواضيع التي يبحثها".
وضرب زياد مثلاً بتطبيق "كوبايلوت" التابع لشركة مايكروسوفت، قائلاً إنه لا يتفاعل مع المستخدم بشكل جيد حال الفصل بين سؤالين ببرهة من الوقت.
ويضيف: "إذا أشرت إلى الموضوع في السؤال الأول بضمير، يتعثر التطبيق في الإجابة، وهذا ما أرغب في تجربته مع التطبيق الصيني الجديد".
"أكبر نموذج لغوي مفتوح المصدر"
"ديب سيك" هو روبوت محادثة مجاني يعمل بالذكاء الاصطناعي، مثل "تشات جي بي تي"، ويقول مطوروه إنه مصمم "للإجابة عن أسئلتك وتحسين حياتك بكفاءة".
ويمثل هذا الروبوت فتحاً في عالم الذكاء الاصطناعي من حيث تدريبه وتطويره، حيث تكلف بناء نموذج الذكاء الاصطناعي التوليدي أقل من 6 ملايين دولار، مقارنة بالمليارات التي تكبدتها الشركة الأمريكية لصالح "تشات جي بي تي".
ويعتمد الروبوت على نموذج الذكاء الاصطناعي المسمى "آر 1" الذي يحتوي على نحو 670 مليار باراميتر، ما يجعله أكبر نموذج لغوي مفتوح المصدر حتى الآن، وفقاً لأنيل أنانثاسوامي، الصحفي الهندي المتخصص في العلوم، والذي ألف كتاباً عن الرياضيات والذكاء الاصطناعي الحديث.
ويقول مستشار شؤون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عامر الطبش إن الباراميترات في الذكاء الاصطناعي هي المسؤولة عن تنظيم وجودة المعلومات التي يُنتجها النموذج اللغوي.
وأضاف الطبش لبي بي سي أنه كلما زادت نسبة الباراميتر، ساعد ذلك التطبيق على تدريبه بشكل أفضل وبالتالي الخروج بنتائج أفضل.
ويُقال إن "آر 1" يضاهي قوة نموذج "أو 1" الخاص بشركة "أوبن إيه آي" الذي يعمل على تشغيل "تشات جي بي تي"، وذلك من حيث الرياضيات والترميز أو الأكواد والمنطق.
من يقف وراء "ديب سيك"؟
وأسس ليانج وينفونج "ديب سيك" في ديسمبر/كانون الأول 2023، الشركة التي تمكنت من إصدار أول نموذج من نماذج اللغة الكبيرة للذكاء الاصطناعي في عام 2024.
وقد تخرج ليانج في جامعة "جيجانج" الصينية في هندسة المعلومات الإلكترونية وعلوم الكمبيوتر، وهو الرئيس التنفيذي لصندوق التحوط المسمى "هاي فلاير"، الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المالية لاتخاذ قرارات الاستثمار، فيما يسمى بالتداول الكمي.
وفي عام 2019، أصبح "هاي فلاير" أول صندوق تحوط كمي في الصين يجمع أكثر من 100 مليار يوان (أي ما يعادل 13 مليون دولار).
وقد حضر ليانج وينفونج مؤخراً اجتماعاً مع رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج، ما يعكس مكانته في الدولة واهتمام بكين المتزايد بصناعة الذكاء الاصطناعي.
هل تفوق التطبيق الصيني على "تشات جي بي تي"؟
قالت شركة "ديب سيك" الصينية الناشئة، الاثنين، إن نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد مفتوح المصدر تفوق على نماذج "ستابيليتي إيه آي" و"إم إس إف تي.أو" التابع لمايكروسوفت، وإنه يفتح باباً جديداً في معايير توليد الصور.
وترى الشركة أن نموذج "جينوس برو 7 بي" الخاص بها، تفوق على "دال إي 3" من شركة "أوبن إيه آي" و "ستيبل ديفيوجن" الخاص بشركة "ستابيليتي"، اللذين يحتلان الصدارة في توليد الصور بحسب الطلب.
ويقول الطبش إن "تشات جي بي تي" لا يزال متفوقاً على "ديب سيك" في الأداء وتقديم النتائج. ومع ذلك، فإن التكلفة المنخفضة لتطوير وتدريب "ديب سيك"، تجعله مرشحاً لمنافسة "تشات جي بي تي" في وقت قصير للغاية "وهذا ما يشكل خطورة في المنافسة" بحسب الخبير التقني اللبناني.
وأضاف الطبش لبي بي سي أن هذا الذكاء الاصطناعي ربما يختصر المسافة الزمنية بحيث "يحتاج إلى وقت أقل بكثير" لكي يصل إلى مستوى "تشات جي بي تي"، بما يسمح للشركة الصينية بتسعيره في الأسواق للشركات والمؤسسات بأقل بكثير من تكلفة التطبيق الأمريكي.
وقال نيل لورانس، أستاذ التعلم الآلي في جامعة كامبريدج البريطانية، إن نموذج اللغة الكبير لشركة "ديب سيك" "يسخر من فكرة أننا بحاجة إلى تريليون دولار لتدريب المستوى التالي من الذكاء الاصطناعي العام"، في إشارة إلى الإعلان الأمريكي الأسبوع الماضي عن حاجة برنامج "ستارغيت" لنحو نصف ترليون دولار لبناء البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، في خطة تقودها شركة "أوبن إيه آي" التي تقف وراء "تشات جي بي تي".
ويعد النموذج الجديد تطويراً لنموذج "جينوس"، الذي أطلِق أواخر العام الماضي، ويأتي في أعقاب إطلاق "ديب سيك" لمساعد جديد يعتمد على نموذج "ديب سيك في 3" الذي أصبح التطبيق المجاني الأعلى تصنيفاً على متجر تطبيقات آبل في الولايات المتحدة.
الأسئلة الحساسة
عندما سألت بي بي سي التطبيق عما حدث في ميدان تياننمن الصيني في الرابع من يونيو/حزيران عام 1989، لم يقدم "ديب سيك" أي تفاصيل حول الاحتجاجات التي شهدها الميدان في بكين في ذلك الوقت، فيما وُصفت بالمذبحة التي يقال إنها أدت إلى مقتل مئات بل آلاف المتظاهرين.
وأجاب "ديب سيك": "أنا آسف، لا يمكنني إجابة هذا السؤال. أنا مساعد ذكاء اصطناعي مصمم لتقديم إجابات مفيدة وغير ضارة".
ويقول الخبير التقني اللبناني عامر الطبش، الذي استخدم التطبيق الصيني على مدى نحو 6 أشهر، إن أجوبة "ديب سيك" حتى الآن لا تزال "حيادية"، بمعنى أنه لا يقدم رأياً بخصوص حرب غزة على سبيل المثال، بل يقدم ملخصاً لما هو مكتوب على شبكة الإنترنت، تماماً كما يفعل تطبيق "تشات جي بي تي".
وكان يُعتقد أن الرقابة التي تفرضها الحكومة الصينية تشكل تحدياً كبيراً أمام تطوير الذكاء الاصطناعي، ولكن يبدو أن "ديب سيك" خضع لتدريب على نموذج مفتوح المصدر، ما يمكّنه من أداء مهام معقدة، مع حجب بعض المعلومات أيضاً.
هل التطبيق الصيني آمن؟
على الرغم من أن الرئيس الأمريكي قال إن برنامج الدردشة الصيني الجديد هو "جرس إنذار" للولايات المتحدة؛ إلا أنه لم يلمح إلى احتمال أن يشكل تهديداً للأمن القومي، بل قال إنه قد يكون أمراً جيداً إذا أدى إلى خفض تكاليف هذه الصناعة.
ومع ذلك، أثار وزير الشؤون العلمية في أستراليا مخاوف حول مدى الخصوصية قائلاً إن ثمة الكثير من الأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها، حول "إدارة البيانات والخصوصية".
وقال إد هوسيك، لقناة "إي بي سي نيوز" الثلاثاء "سأكون حذراً للغاية بشأن ذلك، ينبغي وزن هذا النوع من القضايا بعناية".
وكانت التكنولوجيا الصينية، من هواوي إلى تيك توك، ساحة لاتهامات متكررة بأن الشركات المرتبطة بالصين قد تؤدي إلى جمع بيانات الناس لأغراض استخباراتية.
ووفقاً لسياسة الخصوصية في "ديب سيك"، فإنها تجمع كميات كبيرة من المعلومات الشخصية من المستخدمين، على أن تُخزن بعد ذلك "في خوادم آمنة" في الصين.
وقد تشمل المعلومات التي تقول سياسة الخصوصية إنها في سبيل تحسين "ديب سيك" لتعزيز "سلامتها وأمنها واستقرارها" ما يلي:
. عنوان بريدك الإلكتروني ورقم هاتفك وتاريخ ميلادك، وهي المعلومات التي تُدخلها عند إنشاء حساب.
أي نص وصوت أدخله المستخدم، بالإضافة إلى سجلات الدردشة. .
. المعلومات الفنية" حول طراز هاتفك ونظام التشغيل وعنوان الـ"آي بي" الخاص بك و"أنماط ضغط المفاتيح".
. هذه المعلومات ستكون متاحة لآخرين، مثل مقدمي الخدمات وشركاء الإعلان ومجموعتها المؤسسية، والتي سيتم الاحتفاظ بها "طالما كان ذلك ضرورياً".
وقالت لورين هندري بارسونز، المدافعة عن الخصوصية الرقمية في "في بي إن إكسبريس" إن ثمة مخاوف حقيقية حول الإمكانات التكنولوجية لروبوت الدردشة، وتحديداً حول شروط سياسة الخصوصية الخاصة بها.
وسلطت بارسونز الضوء على السياسة الذي تنص على استخدام البيانات "للمساعدة في مطابقة أفعالك خارج الخدمة"، والتي قالت إنها "يجب أن تدق ناقوس الخطر على الفور لأي فرد مهتم بخصوصيته".
ومع ذلك، يشير الخبراء إلى أن جمع البيانات يشبه إلى حد كبير سياسات الخصوصية التي يوافق عليها مستخدمو الخدمات المنافسة مثل "تشات جي بي تي" و"جيميناي" أو حتى منصات الوسائط الاجتماعية.
وقال الدكتور ريتشارد ويتل الأستاذ بجامعة سالفورد ببريطانيا إن هناك "الكثير من المخاوف" بشأن النماذج المستخدمة في الولايات المتحدة أيضاً فيما يتعلق بالبيانات والخصوصية.
وأوصى ويتل المستخدمين بضرورة توخي الحذر "خاصة في ظل الضجيج والخوف من تفويت تطبيق جديد شائع للغاية".
العالم العربي والذكاء الاصطناعي
ويقول الخبير التقني عامر الطبش إن العالم العربي متأثر بالذكاء الاصطناعي على الهواتف الذكية، وهو "ليس منحازاً لأي تطبيق، بل إنه يستخدم الذكاء الاصطناعي المتاح أمامه".
وأوضح الطبش لبي بي سي أن العالم العربي لا يزال مستهلكاً للذكاء الاصطناعي، فهناك مثلاً شبه اتفاق بين الإمارات وأمازون لتطوير قضايا الذكاء الاصطناعي.
وأشار الطبش إلى مؤتمر نظمته السعودية لتطوير ذكاء اصطناعي عربي بالقيم العربية، والذي يرى الخبير التقني أنه مشروع سيبدأ من البلدان العربية الرائدة وعلى رأسها مصر ثم الإمارات والسعودية، مع الاهتمام بالعمل على الضوابط الأخلاقية.
وأضاف أنه إذا قُدّم في المستقبل ذكاء اصطناعي مطور عربياً على نسخة "ديب سيك" أو "تشات جي بي تي"، فربما نشهد تفضيلاً عربياً خاصاً "للنسخة عربية المنشأ والصنع".
فيديو قد يعجبك: