من هي بطلة لوحة "السيدة الباكية" الشهيرة لبيكاسو؟
بي بي سي:
طالما شكلت دورا مار واحدة من أهم المصورين الفوتوجرافيين ذوي الاتجاه السريالي في العالم، بل إنها الفنان الوحيد الذي عُرِضَت أعماله في كل المعارض الدولية المخصصة لهذا النمط من التصوير.
وتُعرف هذه الفنانة الآن في الأساس على أنها السيدة التي شكلت موضوعا للوحة "المرأة الباكية" للرسام العالمي الشهير بيكاسو. وتُظهرها دموعها التي رُسِمَت بإفراط في الكثير من أعمال هذا الفنان الشهير، وكأنها امرأة محطمة بفعل علاقة أُسيئ لها فيها، وهو ما يعتبر البعض أنه أسهم في ما أُصيبت به في حياتها الواقعية، من انهيار عصبي، وأدى لانسحابها من الحياة العامة.
لكن مار استاءت بشدة من هذه الصورة التي ظهرت عليها في أعمال بيكاسو، رغم أنها اختارت واعيةً أن يكتنف الغموض حياتها، وألا تُخلّف وراءها سوى القليل مما يتحدث عنها أو عن أعمالها. فقد قالت ذات مرة للكاتب الأمريكي جيمس لورد، إن كل اللوحات الذاتية التي رسمها بيكاسو لها "كانت كلها أكاذيب. إنها تعبر عن بيكاسو. لا توجد في أي واحدة فيها دورا مار على الإطلاق". في واقع الأمر، أثارت مار الكثير من الجدل على مدار حياتها، ولم يُكتشف الكثير من أعمالها سوى عند وفاتها.
وقد شهد مركز بومبيدو للفنون والثقافة في باريس مؤخرا افتتاح أول معرض لأعمالها، وهي الأعمال التي ستنتقل إلى متحفيْ "تيت موردن" في لندن و"جيه بول غيتي" في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. ويأمل المسؤولون عن هذه المراكز الفنية أن يؤدي ذلك إلى إعادة الاعتبار لهذه السيدة كمصورة، وكذلك إلى كشف النقاب عن أعمالها غير المعروفة فعليا من اللوحات والصور.
وقد قضت مار - التي وُلِدَت في باريس باسم تيودورا ماركوفيتش - الجانب الأكبر من سنوات الطفولة والمراهقة في الأرجنتين مع والدها، الذي كان يعمل مهندسا معماريا. وعندما عادت إلى باريس، أقامت علاقة صداقة مع المصور ذائع الصيت أونري كارتييه بريسون والرسامة جاكلين لامبا، التي تزوجت فيما بعد الكاتب والشاعر أندريه بريتون.
ودرس الثلاثة على يد الرسام التكعيبي أندريه لوت، لكن الكثيرين - ومن بينهم كارتييه بريسون - نصحوها بأن تركز على التصوير بدلا من الرسم التكعيبي، بعدما بدا بجلاء أن الطرق التي يتبعها لوت في تدريس الفن لا تلائمها.
وبفضل موهبتها الفطرية والانضباط الذي تتحلى به، سرعان ما استوعبت مار تعقيدات هذا الوسيط الفني. وفي صورة ذاتية تعود إلى عام 1930، أظهرت صفحة وجهها البيضاوي جاد الملامح منعكسا في مرآة، وبينهما مروحة كهربائية.
"الإيديولوجية اليسارية"
وكان من حسن طالع مار أنها ظهرت في فترة لم تكن فيها طبيعة هذه الألوان من الفنون قد تحددت بصرامة بعد، وهو ما كان يعني أنه كانت لها الفرصة لترك خيالها يجمح كما شاء. ففي أعمال أنجزتها لحساب صحيفة "لو فيغارو"، ركبت صورا لعارضات يرتدين ثياب سباحة من نوع الـ "بكيني" على صور لأمواج مياه بركة للسباحة، أما عندما عملت لصالح مجلة "هايم" ذات التوجه الطليعي بشكل أكبر، فقد شرعت في تجريب أسلوب الصور المُركبة ذات الطابع السريالي، من خلال وضع صور في مرايا تحملها يد مقطوعة لتمثال يُستخدم لعرض الأزياء "مانيكان".
في الوقت نفسه، لم تكف هذه السيدة عن التعبير عن إيمانها المتقد بالأفكار اليسارية، عبر تركيزها على تصوير الشوارع في باريس ولندن وبرشلونة. ففي صورة بلا عنوان تعود لعام 1933، صوّرت مار صبيا خلا وجهه من كل نضارة الشباب وحيويته، وهو يتكئ على جدار من الحديد المموج، مما يشكل نظرة متبصرة نافذة، إلى الفقر الذي انتشر في مختلف ربوع أوروبا بعد الأزمة المالية التي شهدها عام 1929.
وفي هذه الفترة استكشفت كذلك، ما وصفه بريتون بأنه "الغرابة المذهلة" لما هو مألوف، ما مَكَنها من ابتكار صور غامضة على نحو غريب، تُظهر مثلا تماثيل عرض أزياء، وهي منبوذة بإهمال في فتحات في الجدران، أو تصوّر انعكاس أشكال هذه التماثيل في الألواح الزجاجية للنوافذ.
وتقول أماندا مادوكس المسؤولة في متحف "جيه بول غيتي" إن التصوير الذي مارسته مار في الشوارع وكذلك عملها كمصورة لحساب الغير، "وفرا لها مساحات للتجريب واللعب والتفكير في السريالية".
وأضافت مادوكس أن المصورة الراحلة كانت تفكر في الكيفية التي تترابط من خلالها هذه الألوان والأعمال الفنية مع بعضها البعض "وهذا ما ميزها - بحسب اعتقادي - عن الكثير من المصورين الآخرين".
وانجذبت مار إلى الحركة السريالية بحكم إيمانها بالفكر اليساري في السياسة من جهة، وبالمدرسة الفنية التي يتبناها هذا التيار السياسي من جهة أخرى. وهكذا شاركت في اجتماعات سياسية شهدها حي بيغال وسط باريس، ولم تتردد في التوقيع على بيانات ذات طابع سياسي كذلك، من بينها ذاك الذي أطلقه بريتون للاحتجاج على صعود الفاشية.
وضمت مجموعة رفاقها، الفنان الأمريكي الذي أقام فترة طويلة في باريس مان راي والمصور الفرنسي-المجري براساي، اللذين كانا يصورانها بدورهما. كما كان من بينهم، الشاعر بول إيلوار الذي كان صديقا مقربا لها. والتقطت مار لزوجته نيوش، بعضا من أكثر صورها الذاتية "البورتريه" إبهارا.
ويُعزى الفضل لـ "إيلوار" في تقديمها لبيكاسو في يناير/كانون الثاني 1936. ولم يمض وقت طويل حتى ارتبط الاثنان بعلاقة غرامية.
وقد جاء ذلك في وقت عصيب بالنسبة لبيكاسو على المستويين الشخصي والمهني. فقد كانت زيجته بـ "أولغا كوكلوفا" قد انهارت بعدما تبين أن عشيقته ماري تريز-فالتر حبلى منه، كما تزامن ذلك مع نضوب معينه الفني لفترة ما.
وتقول دماريس أماو، المسؤولة في مركز جورج بومبيدو، أن لقاء بيكاسو مع دورا مار كان بمثابة "بداية لبيكاسو من نوع جديد". ففي واقع الأمر، لولا لقاء مار لم يكن من المرجح أن يُبدع هذا الرجل ما بات يُعتبر أحد أعظم الأعمال الفنية في القرن العشرين؛ على الأقل على الشاكلة التي ظهر عليها وعرفناه بها.
تحويل الألم والكرب إلى مصدر للإبداع
وعقب اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا عام 1936، أقنعت مار وإيلوار بيكاسو - الذي كان يرفض حتى تلك اللحظة اتخاذ مواقف سياسية - بأن يقف ضد الفاشية. وعندما دمرت القوات الألمانية والإيطالية بلدة إسبانية متمردة بطلب من الديكتاتور فرانكو في العام التالي لذلك، أدت النقاشات المحتدمة التي أجراها هذا الرسام الشهير مع مار، إلى أن يُبدع لوحة "الغُرنيكا" التي رسمها بيكاسو وأخذت شكل الصور الفوتوغرافية التي تصطبغ باللونين الأبيض والأسود.
وشكلت دعوة مار لتوثيق مراحل مختلفة من رسم هذه اللوحة شهادة على العلاقة الفنية الوثيقة التي ربطتها ببيكاسو. لكن ذلك لم يمنع الرجل من أن يتعامل مع محبوبته بقسوة شديدة. ففي إطار ما وصفه بـ "ما اختار أن يتذكره من وقائع حياته"، قال بيكاسو إن مار وفالتر - اللتين لم يفترق عنهما طيلة حياته - كانتا تتقاتلان على الظفر بعواطفه ومشاعره.
وترى مادوكس أن الطبيعة المشحونة لعلاقة مار وبيكاسو، لا تنفي أن هذه العلاقة أدت إلى إعادة ضخ الدماء في شرايين هذه السيدة كرسامة. وعلى الرغم من أن تأثيرات بيكاسو تظهر بشكل لا لبس فيه على لوحاتها الأولى، فإن فترة الحرب بما حفلت به من صدمات، شهدت بلورة مار لموهبتها الخاصة.
فقد تعين على هذه السيدة أن تواجه مواقف مثل عودة والدها إلى الأرجنتين والوفاة المفاجئة لوالدتها عام 1942، بجانب إرسال أصدقاء مقربين لها مثل جاكلين لامبا إلى المنفى. وحولت مار مشاعر الحزن والألم التي اجتاحتها لهذه الأسباب لطاقة فنية جسدتها في صورة سلسلة من الأعمال والصور التي تُظهر - مثلا - ضفتي نهر السين، أو مشاهد الطبيعة الصامتة التي رسمتها باللونين الرمادي والبني، لتعكس الطابع الكئيب والمزعج للحياة تحت الاحتلال.
ورغم أن لوحاتها التي عُرِضَت في معرضيْ "جان بوشر" و"صالون الخريف" - وهو معرض فني سنوي يُقام في باريس - حظيت بالكثير من الجوائز، إحداها من معلمها السابق أندريه لوت، وهو ما أعقبته مشاركتها في معارض فردية وجماعية، فإن السنوات التالية لذلك بما شهدته من تراكم للضغوط الناجمة عن أعوام الحرب والتفكك التدريجي لعلاقتها ببيكاسو، نالت منها وأحدثت أثرا سلبيا كبيرا فيها، ما أدى لإصابتها بانهيار عصبي.
وهكذا انسحبت دورا مار تدريجيا من العالم، باحثة عن ملاذ لها في الدين والنزعات الصوفية، لكنها لم تكف أبدا عن الإبداع. ففي الأربعينيات والخمسينيات، تحولت إلى رسم اللوحات الذاتية (البورتريه). ومن أبرز الأمثلة على أعمالها في تلك الفترة، لوحة أليس بي.توكلاس التي كانت محبوبة للكاتبة والشاعرة الأمريكية غرترود ستاين.
أما في ستينيات القرن العشرين، فقد تحولت الرسوم التخطيطية "الاسكتشات" التي رسمتها للنوافذ التي تصطبغ بالألوان خلال القداديس، إلى لوحات تجريدية، قبل أن تعود في الثمانينيات من جديد إلى غرف التحميض المظلمة لإبداع سلسلة مما يُعرف بـ "الفوتوغرام" أو "الصور المساحية الضوئية" التي يتم الحصول عليها دون استعمال كاميرا، لكن من خلال وضع موضوع الصورة على شيء حساس للضوء ثم تعريضه بعد ذلك للضوء مباشرة.
لم تتضح حتى الآن طبيعة رد فعل النقاد على الأعمال الكاملة لدورا مار، التي لا تزال مجهولة من الوجهة الفعلية. رغم ذلك، تأمل مادوكس في أن يبدي الناس تقديرهم لحقيقة أن مار "كانت تقدم أعمالا معقدة وآسرة وتستحق إعادة إمعان النظر فيها". لذا فلتنس فكرة أن هذه السيدة لم تكن سوى موضوع للوحة "المرأة الباكية" كما يحسب الكثيرون، ولتنظر في ما أنجزت من أعمال جريئة ومبتكرة وذات طابع تأملي كذلك. فتلك هي دورا مار لا أقل من ذلك.
فيديو قد يعجبك: