سيدات كرة الجرس.. من بطولة هولندا إلى أوليمبياد طوكيو
قصة وتصوير- مارينا ميلاد:
المباراة دائرة، والمتفرجون على الجانبين، والمدرب يصيح بالتوجيهات. تسمع لاعبات الفريقين كل ذلك لكن ليس أمامهن سوى ظلام. تقف إحدى لاعبات الفريق الأول عند مرماها؛ تتحسس المرمى لتدرك مكانها؛ تمسك بالكرة بقوة، وتقربها ناحيتها كأنها تستميلها لتذهب حيثما شاءت لها، ثم تلقيها بقوة نحو مرمى الفريق الآخر. الأمر كله عند الفريق الآخر يعتمد على التركيز لسماع صوت الجرس الموجود داخل الكرة القادمة نحوهن، وفي ثوانٍ معدودة عليهن تحديد مسارها جيدًا لصدها وحماية مرماهن.
باختصار، هذه هي لعبة كرة الجرس أو الهدف. ربما تكون سمعت عنها يوما أو لم تسمع عنها مطلقا، لكنها بالنسبة لفاقدي البصر لعبتهم الشعبية الأولى.
لكن ربما من المهم أن تعرف أن منتخب هذه اللعبة من السيدات تأهل لأول مرة إلى دورة الألعاب البارالمبية في طوكيو المقرر إقامتها أغسطس المقبل ليصبح هو الممثل العربي والإفريقي الوحيد في منافسات السيدات.
البحث يشير إلى أن عام 1980 هو تاريخ بداية اللعبة في مصر ، وأن أول منتخب للسيدات ظهر بعد ذلك بـ6 سنوات، وذهب إلى بطولة دولية في هولندا. لكن الأمر الغريب أنه سرعان ما انتهى وجوده على نحو غامض، ولم يعد هناك منتخب رسمي لهن حتى عام 2015.
لا نعرف سببا واضحا لهذه النهاية أو أي معلومات عن هؤلاء اللاعبات اللاتي لم تذكرهن محركات البحث، ولم تكن أسماؤهن حاضرة في ذهن أي من رجال اللعبة.. لذا بدأت رحلة البحث عنهن.
هذه الأيام، يتابع أحمد عوين، رئيس الاتحاد المصري لرياضات المكفوفين ما يحدث في معسكر منتخب السيدات المقام في المركز الأوليمبي؛ استعدادًا لأوليمبياد طوكيو. وقد وضع عوين لهذا المعسكر ميزانية تصل إلى مليون و200 ألف جنيه خلال الأشهر الثلاثة، في حين أن ميزانية اللعبة قبل التأهل لم تتجاوز مائتي ألف جنيه سنويًا – بحسب عوين: "هذا حدث ضخم وتعاملنا معه استثنائي".
أسس عوين منتخبا للسيدات عام 2015 فور توليه رئاسة الاتحاد بعد أن كلف أشخاصا معه بجمع اللاعبات الموهوبات من فرق مدارس المكفوفات؛ فلم تكن هناك أندية كثيرة وقتها؛ وفقا لحديثه. لكن لماذا لم يتم تشكيل منتخب قبل هذا التاريخ بكثير؟
جاءت إجابة الرجل عن هذا السؤال مثيرة بعض الشيء لدرجة حولت مسار اهتمامنا من لاعبات المنتخب الحالي المؤهلات إلى طوكيو إلى غيرهن؛ حيث ذكر "أن ثمة منتخبا تشكل عام 1986، وسافر مع منتخب الرجال إلى بطولة دولية في هولندا، ثم تفكك، ولم يستمر لضعف مستواه، ولم يفكر أحد في تشكيل منتخب آخر".
معلومة عوين هي الوحيدة المذكورة عن هذا المنتخب القديم على موسوعة "ويكيبيديا" باللغة الإنجليزية، فلا شيء بالعربية عنهن. ويقتصر المذكور على أنه "أقيمت بطولة العالم لعام 1986 في مدينة رورموند بهولندا. وكان هذا الفريق واحدًا من عشرة فرق مشاركة وحصل على المركز العاشر". لكن لا يذكر أي محتوى آخر منشور كأسمائهن أو أي معلومة عنهن.
كان عوين واحدًا من لاعبي الجيل الأول للعبة، وسافر مع هذا المنتخب إلى هولندا. لذلك يبدو هو "الأمل الوحيد" للوصول إليهن.
عاد عوين إلى بداية الحكاية. فقبل أن يصبح لاعبًا لكرة الهدف بزمن ليس بطويل كان مبصرًا، أنهى دراسته الثانوية، وبجانبها داوم على ممارسة ألعاب القوة، وتحديدا الوثب العالي حتى جاء اليوم الذي قلب وجه حياته ومستقبله تماما في عمر الـ18.
في أحد أيام تدريبه على الوثب سقط على رأسه، وحدث انفصال في الشبكية، ما أدى إلى فقدان بصره لصعوبة علاجه في تلك الأيام. من هنا اتجه إلى رياضات المكفوفين، وذهب إلى اللعبة نفسها التي أفقدته بصره حتى وجد بديلا أخذ اهتمامه: "سمعنا عن لعبة جديدة ظهرت في أوروبا تسمى كرة الجرس وقررنا تجربتها".
لقد اخترع النمساوي هانز لورينزن والألماني سيب رينديل هذه اللعبة قبل أن تصل إلى مسامع عوين وزملائه بأعوام طويلة تحديدًا عام 1946 بغرض مساعدة قدامى المحاربين المكفوفين، ثم تطورت إلى رياضة وأقيمت أول بطولة لها عام 1976.
جذبت اللعبة الجديدة في مصر نحو 30 لاعبًا تشكل منهم قوام المنتخب- بحسب عوين- لكن واجهتهم صعوبات عدة، فلم يكن هناك مقصد للفرق سوى الجمعيات ذات الإمكانيات المحدودة. يحكي عوين الذي كان يتمرن في جمعية المستقبل لذوي الاحتياجات الخاصة بالإسكندرية: "كنا نتمرن على ملاعب السلة المكشوفة والأرض البلاط، وعندما نسافر ونتمرن على صالات مغطاة مجهزة كنا نهتم بالإحساس بالملعب الحقيقي والتعود عليه أكثر من التمرين نفسه".
مرت سنوات؛ وتخرج من كلية الآداب، عُين مدرسًا، وسافر مع منتخب الرجال إلى بطولات دولية حصلوا فيها على ميداليات برونزية وفضية؛ حتى وصلت لهم أنباء عن سفر منتخب للسيدات معهم للمشاركة في بطولة هولندا. الآن لم يتذكر عوين أي واحدة منهن.. مضت أيام حتى تذكر معلومة واحدة لا يعرف مدى جدواها.
قال عوين إن هؤلاء الفتيات يتبعن جمعية النور والأمل بمنطقة مصر الجديدة.
في ذلك الوقت؛ كانت كل فرق رياضات المكفوفين رجالا و سيدات تتبع الجمعيات وبالتالي وزارة الشئون الاجتماعية (التضامن حاليًا) قبل أن تنتقل عام 1988 إلى وزارة الرياضة، وهو ما عاد بالنفع على عوين ومن معه وفقا لقوله: "كانت النظرة إلى اللعبة في الجمعية على أنها علاج وليست احترافا، ولم نحصل على أي أموال.. لكن بعد نقلنا استطعنا التمرين في الصالات المغطاة وحصلنا على 100 جنيه في اليوم بدل تدريب".
لم نجد لجمعية النور والأمل أرشيفا يضم أسماء اللاعبات أو صورهن. اعتمدت محاولتهم للمساعدة على الذاكرة التي أوصلتنا في البداية إلى سيدة بلغت الـ53 من عمرها، تعمل بالجمعية في صناعة المنتجات اليدوية، وتدعى منى عبد المعطي. يعرفها الموجودون بأنها "كانت لاعبة كرة هدف زمان"؛ فربما هي واحدة من لاعبات المنتخب الأول.
بالفعل كانت "منى" لاعبة كرة هدف في الجمعية، لكنها للأسف لم تكن ضمن "منتخب 86". لكن قصتها التي بدأت عام 1992 مع اللعبة تُعبر عما حدث في فترة لاحقة، وقد يكون تفسيرًا لعدم وجود منتخب سيدات لسنوات.
فعندما جاءت الفتاة الصغيرة مع والدتها من المنيا بعد وفاة والدها لتلتحق بالجمعية، اهتمت باللعبة الموجودة فيها أكثر من التعليم أو أي شيء آخر: "وجدنا فيها الحياة". واظبت مع 6 فتيات أخريات على التدريب في الملعب الذي يعلو الجمعية، وقد جهزه نادي روتاري لهن: "لم أكن أشعر أنني على الأرض.. وكانوا يقولون لي إنتي مثل (الكماشة) لأنني أصد الكرة برجل ويد واحدة".
ولأنها في نظام تسميه "داخلي"؛ فغير مسموح لها بالخروج من الجمعية، لذا لم تشترك في نادٍ أو تجد فرصا للعب في مباريات الدوري أو الكأس. وسرعان ما تزوجت عام 1995، وأنجبت ليتوقف تعليمها تماما، ويعطلها مؤقتا عن ممارسة اللعبة. لكنها عادت مجددًا: "كان أبنائي يحضرون معي التمرين والمدربة تطلب من ابنتي ارتداء الغمامة واللعب معنا".
ظلت منى تلعب رغم تقدمها في السن، واحتفظت بحلمها أن تصبح لاعبة محترفة حتى توفيت مدربة الفريق، ولم تهتم الجمعية بجلب مدرب آخر لهن، فكان ذلك بداية انتهاء مسيرتها.
تعلم منى أن هناك فتيات سبقنها على نفس الملعب وكنّ أوفر حظا لأنهن شكلن منتخبًا شارك في بطولة بهولندا؛ لكنها لم تتذكر سوى اسم واحدة منهن "عفاف عبد العزيز".
لأيام؛ بحثت موظفة الجمعية عن وسيلة تواصل مع عفاف حتى وجدت رقم ابنتها التي عملت عندهم منذ فترة قريبة.
بالفعل عَرفت عفاف نفسها في البداية بأنها "لاعبة بمنتخب السيدات الأول". تعجبت من السؤال عنها: "لم يتذكرني أحد"، لكنها تتذكر كل شيء: شكل المبنى، وتدريبها في طرقات الجمعية قبل تشكيل الملعب، وزميلاتها، وحتى فريق الرجال وتحديدًا اللاعب أحمد عوين الذي لم تكن تعرف أنه أصبح رئيسا للاتحاد.
لا تخرج عفاف التي بلغت الـ54 من بيتها إلا قليلا؛ فحتى عملها كموظفة في كلية البنات لا يلزمها بالذهاب، لأنها ضمن نسبة تعيين ذوي الاحتياجات الخاصة، كما أنها تعاني مشكلة في قدمها. تشير إليها قائلة: "السبب في عدم استمراري كلاعبة".
قصة عفاف بدأت منذ كانت في الصف الثاني الإعدادي، ونصحها طبيبها بأن تتحول إلى مدرسة بجمعية النور والأمل لأنها ستفقد بصرها كليا فيما بعد، نتيجة ضمور العصب البصري. كان وقع هذا الكلام على عفاف صادمًا لدرجة كبيرة.
حاولت والدتها إقناعها بالذهاب إلى الجمعية، لكن عفاف التي كانت تُبصر حينها رفضت وضعها والمذاكرة بطريقة برايل لمدة ثلاثة أشهر؛ فحولتها الجمعية إلى قطاع التدريب المهني لتتعلم صناعة السجاد، وهو ما أفلحت فيه، تاركة التعليم وحلمها بالالتحاق بكلية التربية الرياضية. لكنها عثرت في هذا المكان على حلم آخر جعلها تتحمل كل شيء حتى فقدان بصرها الذي حان وقته.
في عام 1986، تشكل فريق لكرة الهدف من فتيات الجمعية اللاتي تقول عفاف إنهن كنّ من القاهرة والصعيد والإسكندرية. شاركت ابنة الـ17 عاما، وأحبت اللعبة بشدة، ولم تفوت تمرينا لها: "كان لدي حب للعب وللشهرة والسفر.. وجدتها فرصة لأعوض حلم الكلية". هؤلاء الفتيات صرن منتخب السيدات الأول في مصر.
سافرت عفاف إلى بطولات في هولندا ثم كندا؛ رغم رفض والدتها: "كانت من المنوفية، ويصعب إقناعها بفكرة سفر بنت إلى الخارج دون زواج.. لكنني أصررت". ثم مضت ثلاث سنوات؛ نضجت فيها مهارة عفاف وتحسن أداؤها يوما بعد يوم حتى وقعت الحادثة التي غيرت كل شيء.
كان منتخبها يتدرب استعدادا للسفر إلى بطولة في سول (عاصمة كوريا الجنوبية)، وسقطت عفاف على الأرض، وأصيبت بتمزق في الرباط الصليبي، الأمر الذي تطلب عملية، ثم كانت المفاجأة التي لم تتوقعها..!
لم تهتم الجمعية بعمل هذه العملية لها وقوبل طلبها برفض جاف- حسب روايتها للواقعة- ثم استكملوا اللعب دونها.
كان غضبها أشد مما أصابها: "لم أستطع معاتبتهم أو أن أقول لهم اهتموا بي".
قامت والدتها بإجراء العملية لها في مستشفى حكومي، لذا كانت جراحة عادية (10 أو 15 غرزة) وليست "ليزر"، تاركة علامة بقدمها حتى الآن.
غادرت عفاف الجمعية عام 1989 ومعها اللعبة. تقول إنها استمعت إلى نصيحة والدتها لأو ل مرة: "لن أنتظر ضياع قدمي مثل عيني ولن أجد أحدا يساعدني إذا حدث لي شيء آخر".
انتهت العلاقة مع زميلاتها أيضًا ولم تعرف عنهن شيئا، تعينت بجامعة عين شمس عام 1990 لتعليم السجاد لأخريات، وتزوجت، لكنها ظلت تتذكر اللعبة دائمًا: "لم تكن رياضة فقط لكن كانت شيئا مهما ينسينا إعاقتنا".
ومنذ عام، كانت عفاف تتحدث مع أحد أبنائها الأربعة، وطلبت منه الدخول على الإنترنت ليبلغها أخبار اللعبة ومنتخبها، فوجدت فرقا زاد عددها، ومنتخبا حصل على المركز الثاني في بطولة إفريقيا المؤهلة إلى أوليمبياد طوكيو: "تذكرت أيامي التي تمنيت فيها أن أستمر وأصل إلى ذلك".
بعدما أصبح أحمد عوين رئيسا للاتحاد، أسس المنتخب الذي لا يشترط فيه أي شيء غير فقدان بصر اللاعبة، بعد توقيع الكشف الطبي عليها. اعتمد له نظام "اللاعب الحر" أي غير المنتمي إلى نادٍ. والسبب كما يذكر أن "الأندية التي تقبل تسجيل فتيات مكفوفات قليلة جدًا".
تلعب تلك الأندية مباريات دوري وكأس سنويًا، لكن لمدة ثلاثة أيام لكل منهما تقريبًا. يفسر هاني الطيب، المدير الفني للمنتخب، ذلك بأنه يرجع إلى ضعف الإمكانيات. يعرف أحمد عوين إمكانيات الأندية جيدًا، وأنها لا تدعم اللاعبات، إلى جانب عدم تلقيهن تمرينا مستمرا لصعوبة توفر صالات مغطاه لهن. لذلك تقول جهاد وليد، إحدى لاعبات المنتخب، "يعلو مستوانا حاليًا قبل البطولة، لكن سيقل مرة ثانية عندما تنتهي لأننا لم نتدرب طوال السنة".
ولا يجد عوين حلا سوى إطالة مدة المعسكرات التي يقيمها الاتحاد مثل معسكر طوكيو الحالي.
انتظرت منى عبد المعطي لسنوات لترشحها جمعيتها "النور والأمل" لتصبح مدربة لأي فريق، لكن لم يحدث، وظلت تخشى طرق الأبواب بمفردها: "لا أحب أن أكون تائهة أو يتم رفضي". واستسلمت عفاف عبد العزيز وربما أصابتها "عُقدة اللعب"- حسب وصفها. فلم تكف عن تحذير ابنها الذي يهوى كرة القدم من الاستمرار فيها خوفا عليه من أن يلقى مصيرها: "قلت له أنت لا تنتمي إلى نادٍ كبير، وإذا حدث لك شيء، فلن تجد من يهتم بك مثلي".
منى وعفاف لا تعرفان لاعبات المنتخب الحالي، ولا تعرفان اللاعبات الجدد أن هناك لاعبات قدامى من الأساس، وكان لهن أحلام مثلهن يومًا.
فيديو قد يعجبك: