الذكرى الأخيرة.. مبادرة توثق المقابر وتنقذ شواهدها بعد الإزالة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
تقرير - مارينا ميلاد:
"أيُّها الزائر للقبر الذي قد حَوَى من كُلّ طيب أطيَبه قل لهذا القبر إن جزت به.
فيك يا هذا جنان طيبة واراهُ قائلاً يا زائري أصبَحَت عندي جنانٌ معجبة.
وكذا التاريخ أضحى قائلاً هذه جنات عدن طيبة. هذا قبر جنانيار هانم حرم خليل باشا كامل يكن توفت في يوم الأربعاء الموافق ٤ صفر سنة ١٣١٤"..
نَحت أحد الفنانين تلك الكلمات على خلفية زرقاء؛ لتبقى شاهد قبر چنانيار هانم، زوجة خليل باشا يكن، والد عدلي يكن (رئيس وزراء مصر في عهد الملك فؤاد الأول).. لكن بعد نحو 126 عامًا من دفن هذه السيدة؛ وقع الشاهد والحوش بأكمله خلال إزالة مقابر بمنطقة الإمام الشافعي.
ولما سمع حسام عبد العظيم عن إزالة مقابر جديدة، نهار الإثنين الماضي، هرع ناحيتها ليلملم بقاياها ذات القيمة الأثرية وغير المسجلة كأثر.. الفعل الذي داوم عليه مؤخرًا منذ بدء عملية الإزالات بقرافة الإمام الشافعي والسيدة نفيسة ضمن مشروع توسعة طريق صلاح سالم.
وفي اللحظة الأخيرة، التقط "حسام" من وسط الرمال شاهدين؛ أحدهما مرسوم عليه عقد تتدلى منه نجمة ذهبية مُشِعَّة وحولها زخارف نباتية مُذَهبة، وتاج من الرخام الأبيض عليه بقايا ألوان وتذهيب، ليصل عدد القطع التي أنقذتها مبادرته "شواهد مصر" إلى 20 قطعة – حتى الآن.
قبل ثلاث سنوات من هذا الوقت، قرر "حسام" أن يفعل دورًا مع الآثار غير أنه مرشد سياحي لزائريها. فأسّس مبادرة لتنظيف القباب والزوايا والسبل وغيرها من أماكن أثرية مُهملة. بدأت مبادرته مع مبنى مقبب مستتر وسط المنازل معروف باسم قبة الحصواتي، وواقع بالقرب من قرافة الإمام الشافعي.
ثم امتدت المبادرة إلى أماكن أخرى.
كانت القرافة وأحواشها دائمًا ما تقطع طريق "حسام" في كل مرة. تجبره أن يمر عليها، يتأملها، يقرأ نصوصها ويفكر في هؤلاء المنقوشة أسماؤهم على أحجارها القديمة وجوارهم ألقاب "باشا، هانم، أفندي...".
يرى "حسام" القرافة بأمواتها والساكنين جوارها أنها "نسيج غير متكرر، لا يمكن إيجاد مثله في العالم".
تدور الأيام ومعها "حسام" وجولاته، ثم يتحول هدف مبادرته من التنظيف إلى حماية ما تبقى من القرافة كالشواهد والأجزاء هامة. بالتزامن مع إزالة الحكومة عددًا من المقابر القديمة لأجل تنفيذ مشاريع تستهدف تطوير المنطقة، ونقلها لأماكن جديدة مثل مدينة 15 مايو (على مسافة 35 كيلو مترا من القاهرة) أو مدينة العاشر من رمضان.
بالمثل، فكان مصطفى الصادق يشق طريقه إلى جبانات القاهرة أو مدينة الموتى طيلة عشر سنوات لأجل تصويرها، حتى إن ساكني المنطقة صاروا أصدقاء له.
لم يكن لدى طبيب النساء سبب آخر لما يفعله غير حبه لهذه الأماكن ورغبته في توثيقها، لعل ذلك ينفع في مشروع تطويرها.. هكذا تمنى.
لكنه الآن صار يوثقها حتى لا تُنسى إن تمت إزالتها. يسارع في التقاط صور لها بتفاصيلها الدقيقة وعبارتها التي كتبها خطاطو العصور السابقة، فربما تكون المرة الأخيرة التي يراها فيها. ويقول "مصطفى": "في كل مرة أذهب إليها أتعلم شيئا جديدًا.. هذه الأماكن فريدة في تصميماتها وخطوطها وتركيباتها الفنية".
لذا التقى "مصطفى" و"حسام" في نفس المكان ولنفس الهدف، لكن لكل منهما دوره. بات الاثنان يتتبعان علامات الإزالة للأحواش الهامة لتوثيقها ورفع شواهدها، التي يسلمها "حسام" إلى وزارة السياحة والآثار لتسجيلها.
ولم يصادف "مصطفى"، كما يقول، أي شخص يتبع وزارة الآثار جاء ليفرز محتويات المقابر ويحدد مدى أهميتها.
إنما يعتمد "حسام" وحده على خبرته السابقة ودراسته للآثار ليُحدد قيمة الأشياء التي يعثرون عليها. فيذكر أنه وجد نصًا تأسيسيًا لحوش يوضح أن صاحبه من زمرة مماليك محمد علي (المعتوقين)، وشاهداً أخر يخصّ السيدة أديبة السنهوري ويعتبر حديثاً، فهو يعود إلى عام 1974، لكن قيمته في ذِكر جنسيتها "يافا – فلسطين".
ولأن تلك المحتويات غير مسجلة كأثر، فقد نفت الحكومة المصرية إزالة أي مبنى أثري يخضع لقانون حماية الآثار. في المقابل، لم يصدر الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، المعنيّ بالحفاظ على المباني التراثية، أي قرار في هذا الشأن.
وسجّلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) منطقة القاهرة التاريخية في عام 1979 كموقع تراثٍ عالميّ. وتضمّ تلك المنطقة مدافن العديد من الشخصيات البارزة.
لذا يرى مصطفى الصادق أن تلك المنطقة من شأنها أن تُعرف أي شخص تاريخ هذا البلد، لا في معمارها الممتزج فيه كل العصور فحسب، إنما في هؤلاء المدفونين بها. فيقول: "فيها أتعرف على شخصيات معروفة من سياسين وفنانين ومثقفين.. وآخرين غير مشهورين تمامًا ولم تذكرهم الكتب، لكن لهم أهمية في تاريخنا كالذين راحوا ضحية الحروب".
قصص هؤلاء قد تحملها شواهدهم التي يجمعها "حسام". فأحدها يخص سيدة تدعى فاطمة هانم، مكتوب بخط متواضع وهو ما أوضح الحالة الاقتصادية لصاحبته عند وفاتها، على عكس آخر يخص "سلمان أفندي" و"كُلفِدار البيضه" يعود إلى عهد الخديوي عباس حلمي الثاني؛ ويشير إلى طبقة اجتماعية عالية واسمين مميزين.
وربما يكشف أيضًا لـ"حسام" وفريقه أنهما كانا زوجان ودفنا معًا بما أن الشاهد ذكر اسميهما سويًا.
لم يكتف "حسام" بتسجيل معلوماتهم تلك، إنما وثق أحواشهم بطريقة أخرى. إذ قام بالتعاون مع أحد مكاتب الاستشارات الهندسية المتخصصة في مجال ترميم الآثار بأعمال الرفع المعماري (LASER SCANNING) باستخدام أجهزة ليزر لعمل نسخة رقمية ثلاثية الأبعاد.
يقول "إن كل هذا لأجل حفظ جزء هام من التاريخ للأجيال القادمة حال هدمه".
بينما يفعل "حسام" ذلك، يضع "مصطفى" الصور التي التقطها على مدار سنوات طويلة جوار بعضها. يرى هنا شاهدًا عمره تجاوز الألف عام، ورثاء يثير كل مشاعره، وقصة تخبره بزمن وحياة أخرى.
لا يتخيل "مصطفى" أن يختفى كل ذلك، كما يقول، ويكمل: "لن أتحمل الذهاب إلى المنطقة إن تمت إزالة هذه المقابر.. لا يمكن أن أسير في شارع جديد يحل محلها".
الإحساس نفسه لدى "حسام"، فيحكي أن كل مرة يحدث فيها إزالة ويركض ليلحق الشواهد قبل كسرها، يشعر كأنه "يفقد شخصًا عزيزًا عليه". ويقول: "تلك الأشياء لن تعوض ابدًا. لكن ليس لدي حلول أخرى سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. فنحن الوحيدون الذين نفعل ذلك".
اقرأ أيضًا: "إحنا المرسومين على الجنيه".. مدينة الموتى تعود إلى الحياة
اقرأ أيضًا: تراث مَحذوف: مبانٍ تراثية خارج "قوائم الحماية"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصور: مبادرة شواهد مصر
فيديو قد يعجبك: