يحيى حقي.. لازال القنديل مُضيئًا (بروفايل)
كتبت-رنا الجميعي:
تحمل ملامح وجهه هُدوءًا أشبه بصفحة البحر الرائقة، حتى أن صَوْته ينقل سكينة ودِعة روحه المُضيء بالعلم والثقافة، ذلك الضياء المُنير لم يستأثر به وحده، لكنّه كما عَنْون أشهر أعماله كان قنديلًا ينير عتمة ظلام الروح العربية، ولازال يحيى حقي يُنير الطريق حتى بعد وفاته بنحو ثلاثين عامًا.
منذ انطلاقته الأدبية لم يترك حقي فن أدبي إلا وعبّر عن نفسه، كان رائدًا من رواد القصة القصيرة، فقد بدأ في الكتابة وهو في سن السادسة عشر، ثم بدأ كتابة القصة وهو طالب بكلية الحقوق، وقد نشر أولى قصصه بعنوان "قهوة ديمتري" في صحيفة "الفجر"، ولم يقف حقي عند فن القصة القصيرة فقط، بل إنه كتب أيضًا الرواية، وكانت أبرز رواياته "قنديل أم هاشم"، و"البوسطجي"، ولرُوحه العذبة فقد كان أشبه بالأب الروحي للكتاب الشباب في فترة الستينيات، فالتفوا من حوله.
وقد آمن حقي بالتجدد، وأنه لا اعتبارات للسن طالما أن الكاتب يُطوّر أدواته بتقدم الزمن، ولأسفاره المُتعددة وسِعة معارفه وعُلومه كتب في نواحي كثيرة، مثلما كتب في النقد؛ "خطوات في النقد"، "فجر القصة المصرية"، و"حقيبة في يد مُسافر"، وقد تعددت آراء حقي في مجالات فنية عديدة، ففي كتاب "خطوات في النقد" الذي جمع فيه نخبة مختارة من مقالاته النقدية ودراساته الأدبية التي نشرها في الصحف والمجلات، أو التي ألقاها في محاضرات عامة، ومن بين ما قدّمه من نقد فقد قام بتحليل مسرح نجيب الريحاني، وعارض من رأوا أن الريحاني هو "فيلسوف العصر"، وفسّر ذلك بأن الريحاني قدم أعمالًا مُقتبسة فكيف يكون فيلسوف عصره!، وربط الريحاني بمن سبقوه في تمثيل شخصية الأفندي البسيط، مثلما كان شارلي شابلن في إنجلترا، وعلي الكسار في مصر.
أثّرت أوروبا في نفس حقي كثيرًا حيث قضى فيها سنوات طويلة، ليس فقط على المستوى الأدبي، بل في تكوينه الشخصي نفسه، فقد حملت روحه تقبل لكل الآراء والاتجاهات، ورُبما أثّرت أيضًا في كونه كاتبًا مُتنوعًا، فكما كتب الرواية والقصة، ترجم أيضًا عدد من الروايات؛ "القاهرة" لدزموند ستيوارت، و"لاعب الشطرنج" لستيفان زفايج، و"البلطة" لسادو فينو، و"طونيو كروجر" لتوماس مان.
لم يقتصر أثر حقي على ذلك فحسب؛ بل إنه كتب أيضًا في مجال الفنون الجميلة، فهناك كتابه "سهراية في الفن الشعبي"، وكتاب "في محراب الفن" الذي تحدث فيه عن الفنون التي شكّلت حسّه الفني والأدبي، وواحد من أجمل كُتبه كان "تعالى معي إلى الكونسير" الذي سرد فيه انطباعاته الشخصية عن الموسيقى الكلاسيكية، حيث عمل حقي في القنصلية المصرية في روما منذ عام 1934 وحتى إعلان الحرب العالمية الثانية عام 1939، وخلال تلك الفترة تردد كثيرًا على دار الأوبرا، وفي الكتاب أيضًا جمّع حقي مقالاته التي حلل فيها أغاني سيد درويش من الناحية الكاريكاتورية.
أثر حقي أيضًا لم يكن داخل كُتبه فقط، فقد ترأس مصلحة الفنون، وكان رئيسها الأول والأخير، في الفترة بين عامي 1955 و1958 حين ألغيت، في تلك الفترة تحمّل حقي مسئولية إنتاج أوبريت "يا ليل يا عين"، الذي يُعدّ باكورة أعمال فرقة "يا ليل يا عين" التي تشكلت عام 1956 بهدف إحياء فن الأوبريت، وكتب الأوبريت توفيق حنا وعلي أحمد باكثير، وشارك في بطول العمل نعيمة عاكف ومحمود رضا وفريدة فهمي ومحمود شكوكو وآخرين، وكانت الفرقة بمثابة النواة التي ألهمت فرقة رضا للفنون الشعبية فيما بعد، وقد كتب حقي مُذكراته في تلك الفترة في كتابه "يا ليل يا عين".
حتى الآن لازال الكاتب العربي يتلمّس خُطاه، ورغم مرور سنوات على رحيل حقي، وسنوات أخرى على القضايا والمناقشات التي خاضها، لكنّ وجهة نظر حقي لازالت تصلُح إلى اليوم، فبين الأجيال القديمة والجديدة لازالت الحرب تقوم ولا تقعد، وفي ذلك كان رأي حقي بصوته "المُجتمع ينقسم لجماعتين، جماعة كلاسيكية بتخاف من الخروج عن القوانين، وجماعة أخرى تتطور، ويجب أن يعكس الأدب التطور اللي بيحصل في المجتمع، ومعنديش مانع الشكل الأدبي يتغير، المسألة مسألة مضمون".
فيديو قد يعجبك: