الفائز بالبوكر العربية: الرواية انتصار للمهمشين وفلسطين تعيش داخلي (حوار)
حوار- هبة خميس:
تصوير- شروق غنيم:
منذ أسابيع قليلة أعلنت جائزة البوكر للرواية العربية جائزتها بفوز الروائي الأردني جلال برجس عن روايته "دفاتر الورَّاق، وهي الرواية الرابعة له في مسيرة مليئة بالجوائز، إذ حصل على جائزة كتارا للرواية العربية عن رواية "أفاعي النار".
تدور أحداث رواية "دفاتر الوراق" عن إبراهيم الورَّاق الذي فقد مسكنه ومحل عمله، وكيف يحوله ذلك لشخص مختلف تضغط عليه المدينة ومن معه إلى أن يبدأ بتقمص العديد من الشخصيات الروائية التي يجمع بينه وبينهم التهميش وضغط المجتمع عليهم.
التقى مصراوي بالروائي وحاوره حول أثر فوزه على مسيرته الأدبية، انحيازه في الروايات للأبطال المُهمشين، وكيف ينظر إلى تجربة الرواية في الثقافة العربية، ومن المقرر أن يوقّع برجس غدًا الطبعة المصرية للرواية بمكتبة تنمية.
بالرغم من صدور طبعات مُتعددة لرواياتك عربيًا وعالميًا.. ماذا يمثل لك صدور طبعة مصرية من "دفاتر الوراق" الآن وباقي أعمالك الروائية؟
بالطبع تمثل لي الكثير، وأنا مهتم جدًا بأن يكون للرواية طبعة مصرية لأسباب كثيرة، لننظر لنوعية القاريء المصري الذي تربى على ما كتبه جده نجيب محفوظ، قرأ ما كتبه جمال الغيطاني وسعيد الكفراوي وغيرهم على صعيد تلك الحقبة التي كرست لكثير من الرموز على الساحة الأدبية العربية والمصرية، ونذهب من تلك الحقبة لما يُكتب الآن على الساحة المصرية وهو مهم جدًا، وبالتالي أنظر إلى علاقة الكاتب بكاتبه، ومن هذا الباب أنظر إلى القاريء المصري بأهمية عالية وهذا من حيث الكيف فقط ، أما إذا تحدثنا عن العدد فإذا أخذنا في الاعتبار نسبة القراء من الشعب المصري نجد أنها نسبة كبيرة وأي كاتب إذا استطاع أن يجد لكتابه تلك المساحة والمكانة لدى القاريء المصري فهو يتحدث عن أرقام كبيرة جدًا من القُراء.
حدثنا قليلاً عن وقع فوز روايتك "دفاتر الوراق" بجائزة البوكر العربية لهذا العام؟
كنت أعلم أن النتائج ستبث مباشرة على الكثير من المواقع فتابعتها على الموقع الرسمي للجائزة مع عائلتي، طبعًا كان كلي أمل بالفوز، لكنه ليس توقع، وفور سماعي بالخبر سعدت للغاية، حتى أنني دخلت غرفة مكتبي وأغلقتها، وجلست أتأمل شخصيات الرواية حتى أصبحت أراها تتحرك أمامي، وشعرت أن ذلك الفوز من أجل الشخصيات المُهمشة والمكسورة، التي مازالت تحلم بفضاءات أكتر رحابة في زمن جديد.
ركزت في الرواية على فكرة ضغط المدن على سكانها من الفقراء ومن خلال الأحداث تقمص البطل شخصية "سعيد مهران" بطل رواية اللص والكلاب للأديب نجيب محفوظ.. هل ترى أن قاهرة نجيب محفوظ التي أفرزت سعيد مهران هي نفسها عمَّان في الحاضر التي أفرزت إبراهيم الوراق؟
اختياري في تلك الرواية لأن يقوم الوراق بتقمص تلك الشخصيات الروائية العربية والعالمية لم يأتِ جُزافًا، من خلال ذلك التقمص أردت أن أقول أن الزمن العربي لم يتغير منذ تلك المرحلة التي عاش فيها سعيد مهران وباقي الشخصيات، فالذي تغير هو الشكل الخارجي فقط، لكن سعيد مهران أزمته هي أزمة إبراهيم الوراق نفسها مع اختلاف التفاصيل، تلك الأزمة هي انسداد الأفق وتزايد المستويات العالية من التهميش والتراجع الخطير وذوبان الطبقة الوسطى، تلك الطبقة نجد فيها القاريء والكاتب، الصحفي والموظف، وتلك البنية الاجتماعية القادرة على إحداث شيء في المجتمع، تلك التحولات أفضت بالورَّاق كنموذج، ولا فرق بينه وسعيد مهران.
"أنا اؤمن بأن الهزات الكبرى تؤدي إلى تقليعات كبرى، و كورونا هزة عالمية"
لكنك لم تكتفِ بالشخصيات الروائية العربية فتقمص الوراق شخصية "كوازيمودو" من رواية أحدب نوتردام؟
نعم هنا أردت أن أُحيل إلى أن هذه المرحلة التي نعيش فيها لها مسببات داخلية وخارجية، ومن جانب آخر أردت أن أقول أن الأزمة ليست فقط عربية لكنها عالمية، بالتالي حينما نعود لشخصية "كوازيمودو" هذا الإنسان المهمش نجد أن هناك خيط وأيضًا حينما اتجهت لشخصية "دكتور زيفاجو" العالمية أيضًا. نحن تلقينا منذ سنوات طويلة المقولة التي تقول أن العالم بات قرية واحدة، لكن للأسف لم نرَ ذلك إلا حينما حدثت الجائحة وأصبحنا نرى أن ما يعني الإنسان في نيويورك هو نفسه ما يعنينا في القاهرة أو عمان، لذا حينما قلت أن فوز الرواية انتصار لإبراهيم الوراق وليلى ويوسف السماك ولكل تلك الشخصيات، كنت أقصد انه انتصار لتلك الزوايا المعتمة والمظلمة في عالمنا العربي لهؤلاء المهمشين والذين رغم كل ما يحيط بهم، إلا أن أعينهم على المستقبل يريدون زمنًا جديدًا تكون فيه الإنسانية هي المرجع الأول والأخير.
بعد ما يقرب من عام ونصف العام على جائحة كورونا، في رأيك ما الذي سوف يتغير على المستوى الثقافي في العالم بأكمله؟
ما حدث على صعيد الجائحة كان مفاجأة كبيرة جدًا، نحن قبل كورونا كنا نتحدث عن القيم الحضارية والإنسانية وحقوق الإنسان والإنسان العالمي المتحضر، لكن حينما عزلنا وراء نوافذنا أصبحنا من خلال الشاشات نرى الإنسان المتحضر في الغرب يتقاتل على ورق التواليت، وكأن بات هناك النظر فقط للمصلحة الشخصية هذا الإنسان المتحضر تفاجأ حينما لم تقدم له مؤسسات الرعاية الصحية العالمية شيئًا وأيضًا المؤسسات الحكومية، وبالتالي فقد فكرة الثقة بكل تلك المنظومة التي كانت سائدة آنذاك.
فقدان الثقة ذلك سيفرز تغييرات جديدة، وأُشَّبه ذلك بمرحلة ما بعد الحربين العالميتين، إذ حدثت تغيرات على المستوى الخارجي والمعمار وأيضًا داخليًا ومن هنا بدأت الحداثة ووجدنا تغيرات كثيرة على صعيد الفن والأدب وحتى على صعيد النظم السياسية، وعلى صعيد الرواية تحديدًا أرى أن هذا الشكل السائد روائيًا الأن ما عاد صالحًا ليواكب المرحلة، والرواية القادمة رواية تتأمل الإنسان من دواخله وواقعه. تلك الرواية سيكون لها لغة جديدة وتقنيات سردية جديدة وسيكون هناك صراع بين تلك الرواية والروايات الرقمية لكن ذلك في غضون أعوام كثيرة حتى تستقر الأمور.
من خلال أعمالك الروائية القضية الفلسطينية لها وجود كبير خاصة في "دفاتر الوراق" التي تتعرض للقضية منذ بدايتها، هل تأثرك مرتبط بالقرب الجغرافي؟
لو كنت بعيدًا تفصلني بحار ومحيطات بالطبع كنت سأكون مؤمنًا بهذه القضية، لأنه في المحصلة أنا عربي أردني وفلسطين جزء مني على كل الأصعدة، السبب ليس القرب فقط لكنني عشت تبعات القضية وبالتالي أتأثر بها مثلي مثل الفلسطيني فهي القضية الإنسانية التي مازالت عالقة حتى الآن.
تابعت خلال العام الماضي كيف أثرت الجائحة على القراءة والفعاليات الثقافية.. كيف ترى عودة معرض القاهرة الدولي للكتاب ومشاركتك به؟
العام الماضي حينما قررت أن أنشر الرواية كنت أشعر بالحيرة، كنا في عمق الجائحة فهل سنجد قارئًا يقرأ الكتاب؟ ولكن كان رهاني على القاريء نفسه الذي لديه كل ذلك الوقت والعزلة، وبالفعل انحاز القراء للقراءة ووجدت الرواية نسبة قراءة عالية في ظل تصاعد أزمة كورونا، لكن هذا لا ينفي أن غياب معارض الكتاب وغلق المكتبات أثر علي ككاتب وعلى لقراء ودور النشر نفسها.
لذا أنا سعيد بعودة معرض القاهرة الدولي للكتاب، بالتأكيد عاد بشروط صحية وحذر للحفاظ على سلامة الحاضرين، ونتمنى في السنوات القادمة أن يعود على نحو أقوى ونجد فيه الفعاليات والتواصل، فالمعرض الآن قائم لكن للشراء فقط وتلك خطوة إيجابية جدًا.
" أنا سعيد بعودة معرض القاهرة الدولي للكتاب"
في روايتك "أفاعي النار" الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية، تعرضت لموضوع التطرف الديني.. ما هي وجهة نظرك بشأن ذلك التطرف الموجود في مجتمعاتنا؟
التطرف الديني موجود في كل الأديان وهناك منه أشكال كثيرة ليست فقط دينية، لكن على ما يبدو أن أِكثرها خطورة هو الديني. في رواية أفاعي النار حاولت أن أذهب بموضوعية لشخصية المتطرف نفسه والمُتَطرف عليه وبالتالي كتبت الرواية وحاولت أن أعود عبرها إلى مراحل قديمة عن كيف تًشكل التطرف وهذا الإرهاب وما العوامل التي ساعدت على ذلك، أطلقت مجموعة من الأسئلة حول تلك القضية الخطيرة التي تهدد حياتنا، بالطبع الرواية لن تقدم حلولاً لكنها تطلق السؤال وتحاول أن تجد له إجابة لتُقصي السلبية عن حياتنا.
"أشد أشكال التطرف خطورة هو التطرف الديني"
في رواية "دفاتر الوراق " نجد شبح المعتقل يؤرق والد البطل اليساري وفي رواية "مقصلة الحلم" البطل يساري خرج من المعتقل.. لماذا تؤرقك فكرة المعتقل لتلك الدرجة؟
الفكرة مؤرقة لنا عربيًا ولي أنا على صعيد شخصي؛ ولدت في طبقة يغلب عليها الطابع السياسي اليساري وبالتالي تعرض أبناء تلك الطبقة للكثير من الاعتقالات وشاهدت ذلك بعينيـ لذا معظم شخصياتي الروائية هي شخصيات نجد بها ذلك الوعي السياسي فثمة خيط بينهم، أؤمن أن كتابة الرواية يفترض أن تكون بناء على مشروع يُشغل الروائي، وأنا مشروعي في تلك المرحلة هو الإنسانية، من الممكن أن أكتب رواية تدور أحداثها في القاهرة أو عمان لكن الهدف البعيد للرواية هو المبنى الإنساني.
بعض النقاد وصفوا روايتك بالرواية البوليسية بسبب عناصر التشويق الموجودة بها من مطاردة الوراق طوال الوقت.. هل تتفق مع ذلك؟
أولًا العناصر التي يقول عنها البعض أنها بوليسية هي عناصر تشويق، وأردت إدخال تلك العناصر لأنني لدي مثل أي شخص مجموعة من الأفكار الوجودية والفلسفية والسياسية أردت لها أن تأتي ضمن سياق استثنائي ومتميز، ذلك البعد العالي من احترام ذائقة القاريء فلا نُقدم له كل شيء جاهزًا، عناصر التشويق تجعل الكاتب يبحث عن الإجابات وتضمن مسيرته في طريق النص حتى يصل إلى نهاية الرواية ستصل له الفكرة وينسى تلك العناصر، وهي مساعدة لكنها ضرورية لأن القاريء ملول إذا مضت عشرون صفحة دون متعة سيُلقي الرواية من يديه.
في مسيرتك عملت بالهندسة لفترة ثم ذهبت للصحافة ثم عدت للهندسة فضلًا عن الكتابة الأدبية.. كيف أثرت تلك المحطات على مسيرتك؟
عملي بالهندسة هو العمل الذي أعيش منه لأن الأدب في عالمنا العربي غير مُربح، من جانب آخر أعمل كرئيس مختبر السرديات الأردني وهو مكان يعني بكل أشكال السرد، ولدي عديد من البرامج عن الثقافة والأدب، فعلى الكاتب أن يتحرك بين الناس وعليه دور في هذا الصدد وكل ذلك يسرق من وقتي الذي يجب أن أكرسه للكتابة، لكن دون الاندماج بهذا الوسط على هذا النحو لن أكتسب الخبرة.
تعلمت من الصحافة الاقتراب من الناس وكيف أطّلع على جوانب مخفية بالنسبة لي وانعكس ذلك على الكتابة، ومن الهندسة تعلمت كيف تخطط لعملك الروائي لأن الكتابة جزء كبير منها صنعة والمتبقي هو الجانب الخفي وأُسميه الموهبة، تنقلت بين محطات كثيرة وحاولت أن أستفيد منها كلها.
بالرغم من ثراء العالم العربي أدبياً على مستوى الروايات تحديدًا إلا أن هناك انفصال بين الدراما والأدب.. هل تشجع على تحويل الأعمال الأدبية لأعمال درامية؟
أنا مع تحويل الأدب للدراما لكن بشروط، حاولت أكثر من جهة التواصل معي بشأن تحويل دفاتر الوراق إلى أعمال درامية، وأيضًا كان هناك محاولات لأعمال سابقة. أرى أن نقل الكتاب من باحته الورقية إلى باحة بصرية إيجابيًا ولكن بشرط أن يكون كاتب السيناريو مُثقفًا فلا يهبط بمستوى العمل، شاهدنا الكثير من الأعمال التي تحولت للدراما لكن هبطت هبوطًا شديدًا وأثر ذلك على مبيعات الكتب والمشروع والبنية التي عمل عليها الكاتب نفسه.
"أنا مع تحويل الأدب للدراما لكن بشروط كثيرة"
جائزة البوكر للرواية العربية أهم وأكبر جائزة عربية للرواية إلا أنها تُحمََل صاحبها الكثير من المسؤولية بشأن كتاباته القادمة.. كيف تتعامل مع ذلك؟
الجوائز جميلة تُضفي البهجة على الكاتب وتفتح له مسارات جديدة على القراء، وتُسلط الجائزة الأضواء على الكاتب وتترجم رواياته فيصبح شهيرًا، لكن من سلبياتها أن الكاتب إذا ارتكن إلى الأضواء ونسي الكتابة بمسافات زمنية زائدة عن حدها فلن يكتب وهناك الكثير من الأمثال على ذلك، يجب على الكاتب أن يخاف من رد فعل القراء على كل رواية كأنها أولى رواياته.
وماذا بعد البوكر؟
أريد للكلمة العربية أن تصل للقاريء الآخر على الصعيد الغربي والشرق أسيوي، أن تكون مسموعة بالترجمة والجوائز الغربية، المهم أن تصل الكلمة لأن العالم لديه الكثير من الأفكار المغلوطة عن عالمنا العربي، ويجب أن تتغير تلك الأفكار، ولدينا طاقات مهمة و رؤي، في المرحلة القادمة هذا أقصى أحلامي وعلى صعيد الجوائز هناك الجوائز المهمة لكن هدفي القاريء والجائزة تصنع الطريق إليه.
"لا أحب أن تحاكم الروايات من زوايا دينية"
يصلك عبر السوشيال ميديا الكثير من أراء القراء في أعمالك.. هل تتفاعل معها ؟
الغياب الكبير وتراجع حالة النقد العربي ترك فراغًا ملأه القراء وهذا له جوانب إيجابية وأيضًا سلبية، بعض القراء يُنصبون أنفسهم حكامًا ديكتاتوريين على النص نفسه دون امتلاكهم لأدوات النقد نفسه، لكني على الصعيد الشخصي تابعت في مراحل معينة بعض الجوانب الإيجابية في أراء القراء في كتابتي وفي إحدى المرات تواصلت معي قارئة عراقية تدرس الطب بشأن رواية "مقصلة الحالم" وكتبت لي رأيًا بشأن الرواية، وبالفعل أخذت به في اعتباري وتم تعديل الطبعات اللاحقة، لكني لا أحب محاكمة الروايات من زوايا دينية ونقد شخصياتها بسبب سلوكهم لأن الكاتب يرسم الصورة كاملة وإذا لم يفعل ذلك لن تصل الفكرة، وسمعت كثيراً أن "دفاتر الوراق" ربما تكون أكثر رواية اتفق عليها القراء بشأن الفوز بالجائزة.
عرفنا أنك بدأت العمل في كتابة مشروع روائي جديد.. هل في الإمكان أن تحدثنا عنه قليلاً؟
العمل مازال فكرة لم أبدأ في كتابتها بعد، لأنني عادة ما أترك الفكرة لفترات حتى تُلِح علي في الكتابة، وأُحضّر لتلك الكتابة جيدًا، أنا في تلك المرحلة حاليًا أقرأ وأرسم الاسكتشات للشخصيات وأزور أماكن معينة، وهذا العمل يتطرق لثلاث مراحل؛ أولهم مرحلة تاريخية عتيقة والثانية هي مرحلة الواقع والثالثة هي المستقبل الذي لم يأتِ بعد، لذا هي رواية تاريخية واقعية ديستوبيا تتداخل فيها ثلاث أزمنة، أتصور أني سأكتبها وقت أن أتخلص من كل الأشياء التي صاحبت الجائزة وأكون قد نستها، لأن في هذا الأمر رهان جديد على أن أكتب عملًا مختلفًا ويرتقي ولو درجة واحدة عن السابق.
فيديو قد يعجبك: