إعلان

حول منزله لـ"أرشيف شبرا".. مينا يحلم بــ"متحف مفتوح" في كل حي شعبي

08:36 م الإثنين 27 ديسمبر 2021

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث


كتبت-إشراق أحمد:
لم يجد مينا إبراهيم أفضل من منزله ليضم حلمه؛ حينما سافر إلى روما في جولة دراسية، لاحظ الباحث في الجامعة الأمريكية أن معظم الزيارات لأماكن أرشيفية، لكنها لم تكن كما اعتاد عليه، كانت تحمل صفة "أرشيف شعبي" ومتاحة للجميع، حينها تساءل "ليه مفيش مكان مصري للتوثيق يكون من الناس للناس؟"، وبمجرد أن عاد قرر تحويل "شقة العيلة" إلى أرشيف شبرا للبحث والتوثيق.

عاش مينا حتى 2012 في منطقة سانت تريزا بشبرا، نشأ على تفاصيل وخصوصية الحياة في الحي الشعبي وأهله، وتشرب التمسك بالمكان، فحينما انتقلت أسرته لم ترحل بعيدًا، سكنوا بالجوار في منطقة الخلفاوي، لكنه ظل محتفظًا بذكرياته في الطابق الثاني لعقار رقم 3 بشارع المتنزه 10 "لقيت أن كل بيت فيه قصص يومية بتتحكي وزي ما حياة اللي قبلنا بقت تاريخ لنا فحياتنا هتبقى كده لناس جاية. فحبيت أخلي البيت يحتوي الأرشيف".



عام 2019، عاد مينا من جولة تعليمية تابعة للمجلس الأوروبي، ظل الشاب منشغلاً بالبحث عن إجابة لسؤاله حول وجود "أرشيف شعبي"، استكمل جولات المدرسة، زار أماكن أرشيفية عن الإرساليات التي قدمت لمصر في القرن الـ18، وجد أن جميعها تستند للتوثيق الأوروبي، فزاد فضوله "قعدت أفكر هي الناس اللي عاشت الزمن ده اتعاملت مع البعثات دي إزاي وكانت حياتها إزاي؟".

اكتشف الباحث أن ثمة فجوة تاريخية وجغرافية بين غير المتخصصين والأرشيف، فقرر أن يسدها، وكانت البداية من محيطه؛ التفت مينا إلى أن كثير من الأبحاث تناولت منطقة شبرا لكن جميعها إما باللغة الأجنبية أو في متناول يد الأكاديميين فقط، وعلم أن المشكلة ليست عنه ببعيد "بحكم دراستي في مدارس أجنبية ومن بعدها الجامعة والشغل فكتابتي لشغلي بالإنجليزي لكن ماكنتش أعرف أقدمه بالعربي".

خصص الباحث في علم الانثروبولجيا –علم الإنسان- دراسته للماجستير عن الجمعيات الخيرية الدينية في شبرا، وأجرى العديد من الأبحاث لكن لم يفكر يومًا في عرضها لغير المتخصصين.

يومًا تلو الآخر وتكبر الفكرة في رأس مينا، يتحدث إلى أسرته ثم ينتقل إلى الجيران ليجد حكايات كثيرة وتفاصيل إنسانية رغب في توثيقها، حينها زاد عزمه للبحث عن مكان يبدأ منه حلم التوثيق لمنطقة سكنه، فكان منزله بالطابق الثاني لعمارة رقم 3 بشارع المتنزه 10.

لشهور سعى مينا وحده لتنفيذ حلمه، يستقبل ردود فعل الجيران المندهشين من طرحه، يحاول تبسيط الأمر عليهم بإخبارهم أنه يرغب في عمل صفحة عن "شبرا زمان" كالمنتشرة على فيسبوك، وبالفعل أطلق صفحة تحمل اسم "أرشيف شبرا"، فيما تحرك بالإجراءات الخاصة لفتح مركز بحثي.

علم الباحث أنه لن يمضي وحده طويلاً "المكان مش هيقوم إلا بوجود ناس عندهم شغف مماثل"، فأعلن عن دورة تدريبية في مايو 2020 لتعليم المهتمين عن الأرشيف والتاريخ الشفوي، وهما الأساس الذي يستند عليه "أرشيف شبرا".



شرط واحد وضعه مينا للراغبين في الإلتحاق بالبرنامج التدريبي "أن يكون مهتم ومن سكان منطقة شعبية". لم يرغب الباحث أن يقتصر على أبناء شبرا "وأحولها لمنطقة منعزلة"، بل أراد أن يبدأ الحلم بكل تفاصيله "أرشفة الأحياء الشعبية بشكل عام"، ولأن الأمر ليس يسيرًا، لذا وجد أن تكون البداية من الدوائر القريبة كما فعل، وهذا يتطلب أن يكون الباحثين من أهل المكان "عشان يبقى في ثقة".

14 شخصًا من مخلفيات دراسية مختلفة تلقوا التدريب، وتطوعوا للعمل مع مينا للعمل في أرشيف شبرا، تناقص العدد مع الوقت، لكن الحماس لتنفيذ المشاريع الأرشيفية لم يقل.

الترام، السينما، كرة القدم. ثلاثة مشاريع بحثية يواصل مينا ورفاقه في "أرشيف شبرا" العمل على توثيقها. فضل باحث علم الاجتماع أن يُجزء تفاصيل الحي الشعبي ويجمع حولها الحكايات الموثقة والشفوية عبر أهالي عايشوها.

كلما مضى مينا نحو حكاية يتفاجأ بالتفاصيل، لكن أكثر ما أدهشه كان وجود 17 سينما في شبرا لم يبق منها سوى واحدة، كذلك قصة المطربة داليدا التي مست قلب صاحب "أرشيف شبرا"، كيف ارتبطت بالحي حتى عمر 18 عامًا، وأن حياتها دلالة عن الأجانب الذين عاشوا تلك الفترة، وبداية علاقتها بالفن من خلال بيع التذاكر في سينما بلازا المقام مكانها جراج سيارات بالوقت الحالي.

ويَعتبر مينا التوثيق مرور الترام في شبرا جزء من أرشيف تلك الوسيلة في أحياء القاهرة، لكن أبدًا ما تخيل أن يقوده الشغف إلى حكاية لم يتوقعها؛ ليلة عيد الميلاد لعام 1925 توجه للكنيسة عدد من العمال القادمين من صعيد مصر إلى شبرا لإنشاء الترام، فإذا وسط القداس، يأخذ أحد الإداريين مقعد تجلس عليه زوجة عامل لأجل سيدة أخرى من الأثرياء، مما أحدث خلاف حينها "عمال الترام حسوا بالإهانة"، فجاء الحل بإنشاء مكان عبادة للعمال، ليصبح ثاني كنيسة تقام في شبرا بشارع خمراوية.

عرف مينا الحكاية غير المشهورة لبناء الكنيسة من أرشيف المكان "ابن الست زوجة العامل حكي القصة". تلك الرواية التي دفعت الباحث للتفكير في أن هناك أسباب مختلفة لإقامة الكنائس في المنطقة "مش بس عشان شبرا فيها مسيحيين كتير زي ما الناس فاكرة"، وكذلك أصبحت التفاصيل تقود صاحب مشروع الأرشيف الشعبي لمزيد من البحث عن الحكايات.

"أرشيف شبرا" ليس فكرة مستحدثة كما يقول مينا، ففي جنوب إفريقيا تجربة أشبه بـ"متحف مفتوح"، وفي ولاية كاليفورنيا الأمريكية، اجتمع بعض الأصدقاء في سن التقاعد لتوثيق منطقتهم وصنعوا أرشيف متاحًا للجميع.

مازال مينا ورفاقه في بداية الحلم، يعتمد الباحث الشاب على التمويل الذاتي والمنح الثقافية للإنفاق على المشروع، فيما يتطوع معه أصحاب الفضول مثله، يبحثون وراء الحكايات داخل الكتب والوثائق المهملة، وعلى ألسنة الأهالي، يتوقون لقدوم 10 مارس القادم الذي معه يعلنون عن أول ثمار أرشيفهم "هنعمل معرض لشغل الترام والسينما".

ينتظر مينا بشوق ذلك اليوم الذي يحضر فيه أهالي شبرا ممن شاركوهم بالحكايات والصور ليروا قيمة ما يحملوه من تاريخ، كما يحلم بالساعة التي يطرق فيها سكان المنطقة وغيرهم باب "أرشيف شبرا" ليزورا المكان ويتفقدوا ما يضمه متحفهم المفتوح دون حواجز، ويصبح "بيت العيلة" نموذج لأرشيفات أخرى في الأحياء الشعبية.

فيديو قد يعجبك: