مدارس بيروت "المنكوبة" تستعد للعام الدراسي الجديد: "لن يوقفنا الانفجار"
قصة- مارينا ميلاد:
يسند "علي" رأسه إلى باب المَدرسة الحديدي؛ ينظر إلى مبانيها التي صارت مُفرغة وسقطت أبوابها ونوافذها. لأول مرة يرى المكان الذي يحرسه منذ سبع سنوات ويعيش داخله ويُعلم أبناءه فيه بهذه الحالة؛ فقد تغيرت معالمه كما تغيرت المنطقة الواقعة بوسط بيروت كلها بفعل انفجار الشهر الماضي الذي جعله "منكوبًا".
وقعت تلك المدرسة على خريطة ضمت أكثر من 100 مدرسة حكومية وخاصة؛ تضررت بانفجار أطنان نترات الأمونيوم المُخزنة في مرفأ بيروت، لتأتي الخسائر بما يفوق قدرتها وأهالي طلابها؛ حيث سقط عليهم عبء إضافي فوق فيروس كورونا الذي لم تكن حددت أرقامه بَعد معالم عامهم الدراسي المُقبل بنهاية الشهر الحالي.
مَر شهر على الانفجار. اليوم هو الثلاثاء، وهو المحدد مع يوم الخميس في مدرسة "علي" لاستقبال الأهالي الراغبين في تسجيل أبنائهم بالعام الدراسي الجديد، بعدما حدد وزير التربية والتعليم العالي اللبناني، طارق المجذوب، بداية العام الدراسي يوم 28 من الشهر الجاري مع مراعاة الإجراءات اللازمة وتقسيم الطلاب والاعتماد بشكل كبير على الدراسة عن بُعد للحد من انتشار فيروس كورونا الذي تخطت إصاباته في لبنان - حتى اللحظة – حاجز الـ20 ألف إصابة.
يكشف كل نهار أن الكارثة لم تغادر بيروت بَعد. ما زالت على كل وجه يدخل ويخرج بجانب "علي" الذي يستقبلهم عند الباب ملقيا عليهم التحية وكأنه يُعرفهم على نفسه. الآثار والبقايا لا تزال في كل ناحية. ورغم ذلك يرى "علي" أن أعداد القادمين قد زادت هذا العام وأغلبهم من المحولين. يعتقد أن ذلك لعدم قدرة الأهالي على دفع مصروفات المدارس الخاصة وتفضليهم مدرسته الحكومية المجانية.
لدعاء محمد طفلة في مرحلة الروضة عليها إنهاء أوراقها بالمدرسة. لكن تبدل شعور الأم بعد 4 أغسطس ككل شيء في بيروت. لم تعد متحمسة لهذه الخطوة الإجبارية؛ فهي لا تعرف كيف عليها أن تجعلها مطمئنة بعيدًا عنها بعد ما حدث: "الولاد تضرروا نفسيًا كل شوي يقولو رح يصيرعنا حرب رح نموت. في انفجارات كتير!".
قدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، في بيان لها منذ أيام، أن ابنة دعاء واحدة من 600 ألف طفل يسكنون على بُعد 20 كيلومترا من التفجير: "هؤلاء قد يعانون من تأثيرات سلبية نفسية قصيرة وطويلة الأمد".
في ذلك الوقت من النهار، كانت مارلان يوسف، مديرة مدرسة "حبل بلا دنس"، وهي على مقربة من مدرسة "علي" تجلس على مكتبها بعد أن نظفوا وأصلحوا حوله قدر ما استطاعوا ورفعوا الركام ليباشروا أعمالهم.
تستغل السيدة خبرتها السابقة كمستشارة في الإدارة الاستراتيجية والتنظيمية بالمدارس في وضع خطط بديلة كلما طرأ أمر جديد عليهم: دربت معلميها على التعليم عن بعد، أسست منصة للتواصل، ونشرت فيديوهات توضيحية للأهالي.
وتنهمك في عملها بتلك اللحظة لتخطط كيفية استغلال مساحة الـ7 آلاف متر لمدرستها لتجميع الـ400 تلميذ بمراعاة التباعد الاجتماعي، على أن يَصعد كل صف للفصل، ويحضر البرنامج الخاص به ويغادر دون مخالطة: "لا كورونا بتوقفنا ولا انفجار بيوقفنا".
ورغم أن مدرستها خاصة نصف مجانية (تحصل على مساهمة من الدولة)؛ فتقول مارلان إنها "لا تحصل على مصاريف من الأسر الفقيرة"، وهو الأمر الذي سيتسع بعد الانفجار بل عليها توفير مساعدات لهم، بجانب دفعها رواتب 40 معلما: "الدولة والجهات واعدة بالمساعدات ونحن منتظرون".
ذلك بينما تجلس ديانا عنتر، المُعلمة بمدرسة أخرى (ثانوية راهبات المحبة) مع بنتيها في زواية بيتهن الوحيدة الباقية على حالها بعد الدمار الذي لحق به. وتجمعن حتى الآن ما تبقى من أشيائهن المبعثرة. وتتابع الأم عبر الهاتف أخبار عودة الدراسة واستمرار "تجربة الأون لاين" التي تراها ناجحة رغم المعاناة من شبكة الإنترنت التي يحتلّ فيها لبنان المركز 160 من أصل 200 دولة وفقا للتصنيف العالمي لسرعة الإنترنت لعام 2018.
لكن الانفجار لم يُبقِ الإنترنت المشكلة الوحيدة أمام "ديانا". إنما عليها إصلاح ما جرى لبيتها الذي عاقبه موقعه المواجه لمرفأ بيروت، وتسبب في تدمير جهازي كمبيوتر خاصيّن ببنتيها.
يمضي النهار. ينتهي تسجيل الطلاب الجدد ويغلق "علي" باب المدرسة وراء آخر شخص يخرج منها. يخطو نحو غرفته الموجودة بالداخل والتي أعطتها له المدرسة منذ عمل بها ليقيم فيها مع أسرته. يجد زوجته لا تولي اهتماما بكل ما يجري بالخارج، فهي لم تُجهز زي المدرسة الخاص بأبنائها الثلاثة الذين يتعلمون بالمدرسة ذاتها.
يقول الأب إنهما بعد ما حدث بـ4 أغسطس لم يعودا متأكدين من شيء. لا يعلمان إذا كانت ستعود الدراسة بالفعل أم لا، وإن عادت فهل المدرسة صارت جاهزة أم لا، وما زالت الصدمة حاضرة منذ ذلك اليوم.
4 أغسطس الماضي..
استغل "علي" وأبناؤه "آية، وعبد الله، ومريم" ساحة المدرسة الفارغة في تلك الأيام ليلعبوا فيها. يحاولون قضاء وقتهم في الإجازة الصيفية هكذا. فالمدرسة هي فسحتهم وسكنهم ومكان تعليمهم، ذلك منذ عمل والدهم حارسًا لها بعد أن ترك عمله كمساعد شيف وشقتهم المستأجرة بالخارج.
كان علي عايش (40 عاما) يقول دومًا إنه سعيد وراضٍ بعمله بالمدرسة الذي يتقاضى عليه ٦٧٥ ألف ليرة لبنانية شهريًا (446 دولار أمريكي)، كذلك بمعاملة المديرة والمعلمين لأبنائه الذين صاروا بالصف الأول والرابع والسادس بها.
وبينما الأب مع أولاده بالملعب، كانت زوجته في غرفتهم مع ابنها الأصغر "شربل" عمره عام وشهران. وحين تخطت الساعة السادسة مساء، انتفضوا جميعا، ولم يكن هناك غيرهم بالمدرسة؛ عندما سمعوا صوتا قويا وشعروا- كما يقول علي- "بقطع متناثرة في الهواء لمدة 30 ثانية"، وظنوا في البداية أن شيئًا حدث بالداخل!
فيما كانت مارلان يوسف، التي تولت إدارة مدرسة "حبل بلا دنس" منذ 3 سنوات، تقف على سطح مدرستها القابع فوق التل المباشر لمرفأ بيروت لتتبين الأمر. ولامرأة مثلها عاشت الحرب الأهلية اللبنانية فتعرف جيدا كيف تفرق بين أصوات الانفجارات الصغيرة والكبيرة. وحين أدركت أن الصوت الذي خَرج "كبيرًا"؛ ملأها الخوف وجرت نحو المصعد لتهبط إلى الطوابق السفلى: "قلت أكيد ما راح لَحِق".
لكن الوضع عند المُعلمة ديانا عنتر كان أكثر وضوحًا وشدة. فهي تسكن بمنطقة الكارنتينا التي يفصلها عن المرفأ كيلو متر واحد.
قبل دقائق من خروج الصوت المدوي بأنحاء المدينة، طلت "ديانا" (43 سنة) من نفاذتها لتصور الدخان الأبيض الصاعد من المرفأ، وتُطمئن ابنتيها (12، 9 أعوام) أنه مجرد حريق. وما إن استدارت حتى باغتهم انفجار كبير دبت بسببه الفوضى في بيتهم فدُمر وأخرجهن إلى الشارع حافيات فوق الزجاج فعرفن أن الفوضي قد دبت في كل بيروت لا في منزلهن فقط.
بعد وقت قليل، لم يعد خافيًا عن أحد وقوع انفجار غير عادي هز مدينتهم حتى وإن جهلوا في تلك اللحظة أسبابه. فاحتضن "علي" أبناءه واختبأوا بغرفتهم الضيقة: "كان شيئا مخيفا ومؤلما لأقصى درجة". نجحت "مارلان" – بعد أن حبست أنفاسها – في أن تصل إلى الطابق الأرضي لتجد كل شيء محطمًا: "كأنه إعصار فات بالمدرسة. المنظر اللي بينشاف مش هو اللي بيحكو عنه العالم"، وعندما بحثت عن زميلتها الراهبة التي لم يكن معها غيرها، وجدتها تحت الركام وقد غطت وجهها الدماء.
فيما ظلت ديانا مع بنتيها بالشارع ولم يملك عقلها قدرة تقبل هذا المشهد الدرامي بحق، ظلت تفكر فيما عليها فعله، وأنه لا يمكنها اللجوء إلى المدرسة التي تعمل بها منذ 18 عاما ويتعلم بها بنتاها، فبالتأكيد قد طالها الخراب.
أيام بعد الانفجار..
جاءت صور بيروت في ذلك اليوم لتُضاف إلى ذاكرة اللبنانين التي تحمل في أرشيفها صور الحروب والدمار. لكن جديدها هذه المرة ليس في قسوتها فحسب، إنما لأنها وجدت منصات إلكترونية تُخزنها وتبقيها أمام الأعين دائمًا. فظهرت على هذا النحو صور لما حَل بمدرسة "حبل بلا دنس"، التي تأسست عام 1905 على يد الإرساليات الفرنسية، أمام لطيفة أزعر وميرا خطار، اللتين تخرجتا فيها منذ أعوام طويلة.
فقدت مارلان، مديرة هذه المدرسة، رفيقتها الراهبة صوفي؛ فلم تتمكن من نقلها إلى المستشفى إلا قبل ساعة في هذا اليوم. لكن ذلك لم يمنع مواصلتها تنظيف المدرسة ورفع ركامها. تشكلت مجموعات للمساعدة جابت بيوت بيروت ومدارسها المتضررة، ومنها مدرسة مارلان التي زارها أيضًا أفراد من الجيش اللبناني والفرنسي لرفع الأشياء الثقيلة.
نظف "علي" أيضًا مدرسته وغرفته الموجودة بها. ووجد نفسه مضطرا لأن يشرح لأبنائه ما حدث ويستعصي عليه هو نفسه أن يفهم كيف حدث! لكنه لم يفلح في أن يخفف من صدمتهم حتى مع مرور الوقت: "بنتي الصغيرة ما بقت بعد هالصوت تطلع من الغرفة".
وقد صَح اعتقاد "ديانا" وبالفعل خَربت مدرستها المكونة من أربعة طوابق على آخرها. ولما استطاعت السير على قدميها بعد إصابتها ذهبت إليها لتعرض المساعدة مع مجموعات المتطوعين: "كان المنظر مخيفا. ولادي مصدومين صدمة كبيرة بس شافوا صور المدرسة بلشوا يبكوا فهذا بيتنا الثاني".
وفي 11 أغسطس، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أنها ستتكفل بإعادة تأهيل تلك المدرسة وغيرها من المدارس المتضررة إلى جانب تقديم الدعم الفني والمادي للوزارة لتطوير التعليم عن بُعد وضمان توافر وسائل التكنولوجيا الحديثة لجميع الطلاب.
لم تكن أخبار استمرار التعليم عن بعد جيدة بالنسبة لـعلي عايش. إذ كانت زوجته الحاصلة على شهادة متوسطة تساعد أبناءهما خلال الشهور الماضية في دراستهم عبر الإنترنت قدر إمكانها وبما تسمح به الكهرباء التي تنقطع بالمدينة ما بين أربع أو خمس ساعات يوميًا على الأقل. ولا يتمنى الأب أن يتكرر "سيناريو الأون لاين" هذا العام: "صراحه بدهن مساعدة. ما كتير يستوعبوا الولاد يعني الشرح بالصف أفضل بكتير من الأونلاين".
لم يرحل الانفجار عن المدينة بعد أن قتل أكثر من مائتي شخص، جرح الآلاف، هدم مبانيَ وشوه ذكرياتها. لا يزال يترك حطاما وتفوح رائحته ويثقل الأمر على دعاء محمد وعلي عايش وديانا عنتر لتمرير ما حدث على أطفالهم: "لبنات لهلق كل ما سمعوا صوت بيخافو!".
لأجل ذلك جمعت مدرسة ثانوية راهبات المحبة طلابها وأهلهم بمعالجات نفسيات بغرض تخفيف معاناتهم التي اختلفت من أسرة لأخرى: هنا أطفال لا يزال يدوي في آذانهم صوت الانفجار وتعلق في رأسهم مشاهد الدماء، وهنا أسرة فقدت شخص، وهنا أسرة أصيبت، وهنا أسرة عاجزة عن شراء أجهزة كمبيوتر بديلة.
وتذكر اليونيسيف في بيانها "إن بإمكان التعليم أن يوفر في أوقات الكوارث كالتي حلت في بيروت نبضاً حيوياً للأطفال الذين انقلبت حياتهم رأساً على عقب".
تيقنت ندى أبو فاضل، مديرة المدرسة، من ذلك وأنهم- حسب قولها - "الأمل المتبقي" لهؤلاء الأطفال الذين صُدموا وفَقدوا وتألموا، لذلك تسابق مدرستها الزمن لتكون مستعدة لعودتهم حتى وإن بلغت خسائرها المليون دولار ولم تنته إصلاحاتها بَعد: "هنرجع حتى بلا نوافذ ولا أبواب. هنعمل المستحيل لنبلش رغم كل شيء".
- استخدمنا اسمًا مستعارًا لحارس المدرسة بناءً على طلبه.
فيديو قد يعجبك: