إعلان

احتضنتهم يد الرحمة والممرضات.. أطفال مستشفى بيروت ينجون من الانفجار

08:36 م الإثنين 10 أغسطس 2020

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-إشراق أحمد:

ساعة واحدة تفصل نسرين انجبار عن انتهاء موعد ورديتها. السادسة مساءً، بدأت الممرضة تتمم على الصغار المتواجدين بــ"الحضّانات"، تعطيهم الأدوية، تُدون ملاحظات رأتها عن حالتهم طيلة النهار، تُنجز كل التفاصيل قبل وصول رفيقاتها لاستكمال مهمة رعاية الأطفال، في ذلك الوقت تغادر حوراء عيسى منزلها بالضاحية الجنوبية في بيروت، بطريقها إلى مستشفى "الكرنتينا" لاستلام ورديتها الليلية. عشر دقائق وتغير المشهد، تكفلت كل من الممرضتين رفقة زميلات أُخريات بمهمة ليست بعيدة عنهما في حماية المولودين حديثًا، لكن هذه المرة لم يحموهم من المرض، إنما من انفجار ضرب بيروت وكاد أن يودي بحياتهم.

على بعد نحو 500 متر من مرفأ بيروت، وجهة الحياة للبنانين، تقع مستشفى "بيروت الحكومي- الكرنتينا"، مقصد الأطفال حديثي الولادة ودون العشرة أعوام، من أصحاب الحالات الحرجة، المستدعية لقسم العناية الفائقة.

يوم الثلاثاء، 4 أغسطس، قضت نسرين نهارًا عاديًا في عملها الباديء منذ السابعة صباحًا، لكن بعد تجاوز السادسة بنحو عشر دقائق سمعت صوت "متل الطيران وكمان صوت عم بيفرقع بره"، غادرت الممرضة غرفة "الحضّانات"، فيما كانت رفيقتها في الوردية بدورة المياه، وقفت في ردهة المستشفى كما فعلت الممرضات المتواجدات، راحوا يتبادلون أفكارهم "هل فعلاً هاي صوت طيران؟ هل ممكن إسرائيل عاملة غارة علينا؟"، وبينما يواصلون الأسئلة قاطعهم الانفجار، أطاح بهن جميعًا من مطارحهن.

1

كالخروج من قلب عاصفة هوجاء؛ فتحت نسرين عينيها ثانية، تفقدت زميلاتها، سلموا جميعًا، خروجهن على عتبات الغرف خفف من الإصابات "ما كان في زجاج قريب علينا والأسقف المحطمة بالطرقة مستعارة اتكسرت وقعت علينا". استجمعت الممرضات قواهن سريعًا، تذكرت الممرضة صاحبة الاثنين والأربعين ربيعًا ثلاثة صغار وحدهم في "الحضّانات"، وكذلك فعلت بقية الممرضات الأمر ذاته، بدأن في إخراج الأطفال الثمانية الأكبر عمرًا المتواجدين رفقة أهاليهم، واحدًا تلو الآخر.

وقت وقوع الانفجار، كانت حوراء قطعت نحو عشر دقائق من زمن وصولها للمستشفى المستغرق ما بين 20 إلى 30 دقيقة. عايشت الصوت ذاته لكن في السيارة، انتهابها الفزع، رأت الزجاج المتناثر والسماء المكسوة بدخان زهري، مثل كثير من اللبنانيين ظلت تجهل ما حدث حتى استقبلت رسالة إخبارية "منطقة الكرنتينا انفجرت"، كذلك رأت نبأ انفجار ميناء بيروت، لم تؤثر الممرضة السلامة "ما رجعت على البيت كفيت طريقي على الشغل لاشوف شو صاير بالمستشفى".

2

في "الكرنتينا"، بينما تهم نسرين من مطرحها لتفقد الأطفال، جاءتها صرخة سيدة تستغيث بها لانقاذ ابنها "قُصي" ذو الثلاثة أشهر، كانت رفقته قبل الانفجار؛ انطلقت الممرضة سريعًا نحو غرفة العناية الفائقة للأطفال من دون حديثي الولادة، لكن الأمر كان عصيبًا.

سقط الحائط الواقع خلف سرير الصغير الموصول بجهاز تنفس صناعي وفي حالة حرجة، انهارت الأم لرؤية حطام على طفلها، حاولت نسرين أن تهديء من روعها، طالبتها بمغادرة المستشفى، ووعدتها بإحضار ابنها بعد فصله عن الأجهزة، فعلت الممرضة ذلك ثم عادت لغرفة "الحضّانات".

3

ينقسم "الكرنتينا" المنشأ عام 2016 إلى ثلاث أقسام، أحدها للعناية الفائقة للأطفال حديثي الولادة، وآخر للصغار الأكبر عمرًا، وعنبر الأمراض غير الحرجة أو "العادي" كما يوصف. انطلقت نسرين ورفيقة لها تدعى فاطمة لإخراج المولودين الثلاثة، لورا، 40 يومًا، بترو، 3 أسابيع، ومحمد، يوم واحد. لا يختص المستشفى بعمليات الولادة، لذا يتواجد الصغار دون أمهاتهم، يُتركون وحدهم في عناية الطاقم الطبي.

حين دخلت نسرين غرفة حديثي الولادة، تتابعت الصدمات ومعها ألطاف خفية، أخذت تلملمها الممرضة العاملة في المستشفى منذ ثلاثة أشهر؛ انهارت الجدران لكن ما أصابت الأطفال "الحضّانات انحدفت على الحيط التاني"، لم يمس الصغارَ الضُر حتى سباتهم "ما حدا منهم كان عم يبكي. كانوا نايمين وما حاسين بشيء". كانت العناية الإلهية تنبض برحاب الملائكة الثلاثة.

4

توقف الزمن بالممرضات لحين مغادرتهم المستشفى المحطم الأرجاء، حتى لحظة الخروج كان الظن أن ثمة قصف إسرائيلي مثلما سبق أن شهده لبنان عام 2006، ما بين النصف ساعة أو تزيد قليلاً، استمرت ممرضات "الكرنتينا" في مهمتهن دون معرفة سبب ما جرى، لازم نسرين خوف شديد، رغم تأكدها من سلامة الجميع إلا من إصابات غير بالغة، لاحظت الممرضة انكسار تمديدات الاكسجين بالجدران، لاحقها التفكير "إذا رجع صار قصف أو أي شيء كان هيبقى كارثة أكبر"، لذا أهمها إخراج الصغار بأسرع وقت.

على أبواب مستشفى الأطفال، أبصرت عين حوراء وقع ما حدث؛ تقف رفيقاتها في وجوم، إحداهن تغطي الدماء ثيابها، أخرى برأس جريح، نسرين تحتضن رضيع مغطى بمنشفة الحضّانة، ورفيقة ثانية تدعى فاطمة تحمل مولودين. اقتربت صاحبة السابعة والعشرين ربيعًا من مبنى "الكارنتينا"، الهدم يعج بالأرجاء، وثمة سيارة لطبيب "واقع عليها ردم"، نظرت حوراء بأسى لمكان عملها طيلة ثلاثة سنوات "اللي بيشوف المستشفى وقتها بيقول أن المرضى والموظفين ما حدا فيهم بيطلع عايش من تحت الردم"، لكن ثمة حياة كُتبت في صفحات المتواجدين، لم تنقص سوى واحدة.

5

حين أخرجت نسرين الطفل "قصي" من تحت الحطام، ما إن وضعته بين يدي والدته، حتى لفظ الصغير أنفاسه في أحضانها. كان ذلك منتظرًا لحالته الحرجة "من الصباح كنا متوقعين نخسره في أي لحظة. كل الدكاترة كانوا فاقدين الأمل وعم يعطونا توجيهات أنه عم بيفارق الحياة"، لكن جاء الانفجار مؤذنًا بالميعاد، فارق ذو الثلاثة أشهر الحياة كما ودعت بيروت صِمام حياتها.

زادت وفاة الصغير قصي المشهد ثقلاً، لكن لم يكن هناك بديل؛ علمت حوراء أن ورديتها قد بدأت ولو على نحو آخر، حدثت نفسها "أجى دورنا"، كان لابد من نقل الأطفال الثلاثة حديثي الولادة لمكان آمن، حملتهم الممرضة ورفيقة لها في دوام العمل المسائي، استقلت الشابتان سيارة تابعة للجيش اللبناني، يتخذ له ثكنة قرب مستشفى "الكرنتينا".

6

خلال نحو ربع الساعة وصل الصغار الثلاثة لمستقر أمن، مرت الدقائق ثقيلة، ودت حوراء لو حلقت بهم لتصل سريعًا "لأنه طلعناهم من قلب الحضّانة. كان واجبنا نحمي هدول الولاد ياللي مسؤوليتهم برقبتنا". فقط حين بلغت المشفى الآخر، امتنت لبلوغها "الكرنتينا" حتى تساند رفاقها، فيما توجهت نسرين لمنزلها في منطقة الشويفات بمحافظة جبل لبنان، قضت الليلة في غرفتها التي تبعد عن المشفى نحو 30 كيلو مترًا، كما كانت ستفعل بعد انتهاء الوردية، اتمت الممرضة مهمتها لكن على نحو غير عادي، ظلت نفسها تؤرقها حتى اليوم التالي للانفجار. طيلة مسيرة عمل لنحو 14 عامًا لم ينقض على نسرين ليلة عصيبة كهذه، خلفت نحو 150 قتيلاً، وإصابة أكثر من 5 آلاف.7

أدت ممرضات "الكرنتينا" مهمتهن في إنقاذ الأطفال، استودعوهم بين يدي رفيقات أخريات "لهلا عم نطمن عنهم. حالتهم كتير منيحة"، ولم يكتفين بهذا.

بعد يومين عاد طاقم المشفى بأكلمه، من تواجد يوم الانفجار، والغائبين قدرًا، حاولوا انتشال الركام من المكان "حاولنا ننقذ المعدات والمستلزمات الطبية. كل شيء لسه صالح للاستعمال كنا عم نشيله ونخزنه لنستعمله لاحقًا لأن هاي الأجهزة مكلفة جدًا". لا يعلم العاملون بمستشفى الأطفال متى العودة، كل ما يعرفوه أن يوم الرابع من أغسطس لن يمحى من الذاكرة "راح يضل المشهد فينا طول عمرنا. الله يعين الناس اللي راح لها شهدا واللي بعدها أهلها مفقودة".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان