في أول يوم بعد إعادة تشغيله..حكايات المرضى الممنوعين من دخول معهد الأورام
معايشة - مها صلاح الدين:
لم يبالِ "سيد" بالطقس السيئ أو الأتربة العالقة في الهواء. وصل إلى بوابة معهد الأورام في السابعة والنصف صباحًا، كي يتحاشى الزحام، ممسكًا صغيره بيدٍ، وبالأخرى كارت العلاج، الذي يصرفه من معهد الأورام بشكل دوري كل شهر.
لم تكن تلك المرة هي الأولى التي يأتي فيها "سيد" وصغيره إلى المعهد هذا الشهر بهدف صرف العلاج. تكرر المشهد نفسه أمس السبت، لكنه انصرف بعد أن طلب منه أمن المعهد أن يأتي اليوم؛ لأن المعهد مغلق بسبب اكتشاف 17 حالة مصابة بفيروس كورونا بالداخل، وجارٍ تطهيره وتقيمه.
لم يختلف مشهد اليوم عن أمس، سوى أن سيد أخفى نصف وجه صغيره بكمامة، لحمايته من الإصابة بالكورونا، ويقول الأب الذي حضر من محافظة الشرقية، ليحضر العلاج لإبنه "العلاج مش هقدر على دفع ثمنه"، في حالة عدم الحصول عليه بشكل مجاني من المعهد.. لكنه لم ينجح في اليوم الثاني على التوالي، فأخذ صغيره، ورحل في صمت.
كان "سيد" وصغيره ضمن عشرات المرضى الذين ترددوا على بوابة معهد الأورام اليوم، ولم يسمح أمن المعهد لهم بالدخول، بسبب إصابة 17 من العاملين بالداخل بفيروس كورونا المستجد، رغم إعلان الإدارة إعادة فتح المعهد رسميًا بدءًا من اليوم الأحد، بعد إغلاقه، منذ الخميس الماضي، لمدة ثلاثة أيام.
جلس رجال الأمن الثلاثة على كراسي خشبية أمام البوابة، يردون من خلف الكمامات على المرضى القادمين من أغلب محافظات مصر "المعهد مش شغال"، ويشيرون بأصابعهم نحو ورقة صغيرة معلقة على الجدار الخارجي للمعهد، مدون عليها 4 أرقام هواتف أرضية "اتصلوا ع الأرقام دي وهما هيقولولكم تيجوا إمتى".
"انتصار"، سيدة خمسينية، وقفت حائرة أمام الورقة، تطلب ممن حولها ورقة وقلما، متسائلة: "هو إيه اللى حصل؟!
لم تكن تعرف السيدة القادمة من "الخانكة" بأمر الإصابات بفيروس كورونا داخل المعهد، وحينما علمت لم تهتم، ولم تشعر بالخوف أو القلق على حياتها المهددة مسبقًا، كان كل ما يعنيها أن تحصل على علاجها وتمضي، لكن هذا لم يحدث.
حاولت التوسل إلى رجل الأمن كي يسمح لها بالدخول، لكنه رفض بشكل قاطع، وطلب منها أن تتصل بالأرقام المعلقة لتعرف متى يمكنها أن تحصل على الدواء.. وبالرغم من ذلك قررت أن تنتظر حتى الساعة التاسعة "يمكن يرضوا يدخلونا".
على الجانب الآخر، جلست "كريمة" برفقة ابنتها في سكون، كان من المفترض أن يتم احتجاز الصغيرة لإجراء عملية جراحية لاستئصال ورم يوم الخميس الماضي، حضرت في الموعد، لكن الطبيب طلب منها أن تحضر الطفلة، وتأتي يوم الأحد.
لم تكن تعلم، رغم موقف رجال الأمن القاطع، إذا كانت ستتمكن من الدخول أم لا، "خايفة أسمع كلامهم وأمشي أضرها"، لم تخْفِ السيدة الأربعينية قلقها على الصغيرة في حالة احتجازها بالمستشفى، قالت بتلقائية "إحنا بنسمع في التلفزيون إنه خطر علشان مناعتها ضعيفة"، هاتفت نجلها الأكبر "أعمل إيه: أمشي ولّا أستنى"؟
في الثامنة صباحا، بدأت تتزايد أعداد المترددين، وأمام الورقة المعلقة على الجدار، التف عدد منهم، وأخذوا يتناقشون، تتوسطهم سيدة ثلاثينية تدعى "سمر" ترتدي كمامة وقفازات، تحاول أن تبتعد عمن يتحدث معها قدر الإمكان، طرحت عليهم فكرة تجميع كروت صرف العلاج معها بالترتيب، وتقديمها لرجال الأمن في تمام التاسعة، حتى يوافقوا على إمكانية صرف العلاج كل واحد في دوره، دون تكدس. ورغم أن تلك الخطة لم تكن مضمونة فأغلبهم قرر أن ينتظر.
على الجهة الأخرى، وقفت "فاتن" التي لم ترفع عن وجهها الكمامة، بعد أن قطعت مسافة لا تقل عن ساعتين من قريتها بمحافظة القليوبية حتى وصلت إلى بوابة معهد الأورام. لم تقطع الثلاثينية تلك المسافة هباءً، طلبت منها الطبيبة المتابعة لحالتها الحضور، لتلقي جلسة العلاج الإشعاعي، التي تتلقاها كل 6 أشهر، وقالت لها "تعالي استنيني تحت وأنا الساعة 9 هدخلك".
ورغم وعد الطبيبة لها، فإن "فاتن" يتملكها القلق "يا رب تعرف تدخلني يا رب"، تحكي فاتن بسخرية "حماتي قالتلي متروحيش علشان اكتشفوا كورونا في المعهد"، تصمت قليلًا وتتنهد، "نفسي آخد الجلسة بقى واخلص، دى آخر جلسة".
لم تكفّ "فاتن" عن المحاولة، وفي الثامنة والنصف طمئنها رجل أمن "هندخل أصحاب جلسات الكيماوي بس.. مفيش صرف علاج ولا عمليات ولا طوارئ".
لم تمر كلماته مرور الكرام، التف حوله المرضى وذووهم، وبدأوا في الاحتجاج والاعتراض والأسئلة، وحاول هو وزملاؤه منع التكدس في مكان واحد، ونصحوهم بالرحيل "إنتو مش خايفين على نفسكم.. المكان هنا خطر.. طب إحنا استعوضنا ربنا في حياتنا، بس انتو مناعتكم ضعيفة"، ليرد عليه أحدهم "ماهي كدة موتة وكده موتة.. ما إحنا لو مخدناش العلاج برضه هنموت!".
ومع اقتراب الساعة التاسعة، بدأ العاملون بالمعهد في التوافد، وأخذ رجال الأمن يسلطون مسدس قياس الحرارة على رؤوسهم قبل أن يسمحوا لهم بالدخول، وكذلك حضر أيمن، شاب عشريني بصحبة والدته التي كانت تصرخ من الألم.. تركها على أحد المقاعد خارج المبنى، وذهب لرجل الأمن ليخبره "معايا حالة طوارئ.. مش قادرة تستحمل"، فيرد عليه رجل الأمن مسرعًا: "خدها القصر العيني أو معهد ناصر.. الطوارئ مقفولة".
ومع تمام الساعة التاسعة، وقف أحد رجال الأمن وسط الساحة الخارجية للمعهد، وبدأ ينادي على أسماء أصحاب جلسات العلاج الكيميائي والإشعاعي للدخول، مطالبا بقية المنتظرين بالرحيل.
هرولت فاتن إلى الداخل دون تفكير، واتكأت والدة "أيمن" على كتفه، وقرروا التوجه إلى قصر العيني، وتيقنت كريمة أنه لا يمكن احتجاز ابنتها لإجراء العملية اليوم.. وانتابت سمر موجة من اليأس بعد أن فشلت خطتها في الحصول على العلاج، فأعادت جميع البطاقات إلى أصحابها، وغادروا جميعًا.
فيديو قد يعجبك: