حراس الأذان في زمن "كورونا".. ماذا يفعل أئمة المساجد بعد غلقها؟
كتبت-إشراق أحمد:
تصوير-محمد حسام الدين:
لا يتوقف هاتف الشيخ عباس صالح عن الرنين، يجيب إمام مسجد النور بالعباسية سريعًا، ربما كانت حاجة لأحدهم قضاها في دعوة أو مشورة، ولعلها مكالمة من مشتاق اعتاد الصلاة خلفه لكنه لم يفعل منذ أسبوعين، فاتصل يلتمس الوصال مع الجامع وأهله. لا يرد صالح المتصلين على كثرتهم؛ في هذه المكالمات صار له بديل أمن للحضور بين المصلين، وفسحة من الأنس بينما يخلو بنفسه داخل المسجد، بعدما أقرت وزارة الأوقاف إغلاق كافة المساجد والزوايا وتعليق الأنشطة الجماعية بها اتقاءً لتفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19).
كان بمثابة إعلان أن المصاب بلغ مصر حقًا؛ مع حلول ظهر الحادي والعشرين من مارس المنصرف تغيرت صيغة الأذان، من حينها خلت آلاف المساجد على مستوى الجمهورية إلا من الأئمة والمؤذنين وبعض العمال في الجوامع الكبرى، باتوا يحرسون الأذان الجديد، يغلقون وراءهم الأبواب خوفًا من دخول غيرهم ووقوع الأذى، يحثون لأول مرة الناس على إقامة الصلاة والذكر في أماكنهم، يكتمون في أنفسهم كل مرة وقع "ألا صلوا في بيوتكم. ألا صلوا في رحالكم"، تبدل حالهم سائر الكثير، لكن تجلت لهم مهمة هي صميم عملهم كما يقول إمام مسجد النور "في الأزمات زي ما الطبيب له دور في العلاج. إمام الجامع له دور في حماية نفوس الناس بالتوعية".
مع العاشرة صباحًا يواظب صالح على الحضور يوميًا بالمسجد حتى أذان المغرب، يشرف على انضباط الأذان بالصيغة الحالية، ويتبادل رفعه أحيانًا مع المؤذن الرئيس، بينما يتواجد بعض العمال يتفقد أحوالهم، ويستمع منهم لما يساورهم من خواطر عن الحدث الجلل.
"هو ربنا غضبان علينا يا فضيلة الشيخ؟" سؤال تردد على صالح طيلة الأيام الماضية، مع طرحه يستعيد الإمام دوره وقت ارتباك النفس "مهمتي دلوقت أبث روح الأمل والطمأنينة في الناس"، يهون على قلوب المستشعرين الهلع بما تيسر من أحاديث "رفع درجات الصابرين عند وقوع الابتلاء" وأن العسر فرصة لتذكر اليسر ومراجعة الذات، فيما تُخفي سريرته أنين لا يعلمه إلا مَن شب خطيبًا داخل المساجد منذ سن الثالثة عشر حتى بلغ أشده وتجاوز الأربعين من عمره، بينها 26 عامًا إمامًا رسميًا في الأوقاف.
صوب المنبر يجلس صالح، تدور عيناه بين أرجاء مسجد النور، اقترب وجوب صلاة العصر، مواطن السجود خالية إلا منه ومؤذن، يتسلل لنفس الخطيب شعورًا لم يعرفه مسبقًا "الواحد يشعر أن جسده ثقيل. لو أحس أحدهم باليتم لأحس ما نحن فيه"، لكنه سرعان ما تعاوده الهمة بمكالمة أو تواصل عبر رسالة، يُسأل فيها عن شأن ديني "الناس اللي كانت بتجيلنا المسجد تستفسر عن فتواهها بقت تتصل"، زاد استقبال الشيخ للاتصالات منذ قرار غلق المساجد، فيما أصبح عليه رد المغالطات "حد بعت لي مرة بوست اتنشر عن أن كورونا مذكورة في القرأن"، فيصحح الإمام على الفور.
خلاف إمام مسجد النور، يقضي فتحي (اسم مستعار) نحو عشر دقائق في الجامع الواقع بمنطقة شبرا الخيمة، يرفع الأذان ويصلي وحيدًا ثم يمضي عائدًا لمنزله القريب، يجمع زوجته وأبنائه ويأمهم في صلاة يقنت فيها إلى الله كي تُرفع الغمة. لا يمكث الإمام الأربعيني في المسجد طويلاً إلا بين المغرب والعشاء، يختلي بنفسه في متسع بقدره أن يضم نحو ألف شخص حسب قوله، ساعة يرتل فتحي فيها القرآن، ويبتهل بما يحفظ من تواشيح، يمد روحه بزاد يدفع عنها تسلل الشعور بوحشة المكان بلا مصلين.
كان اليوم الأول للغلق هو الأثقل على نفس فتحي "وقت صلاة الظهر عرفت بالقرار روحت المسجد لقيت الناس مستنية وبتقولي يلا عشان تأذن". لم يكن أحد من الأهالي يعلم بالخبر، حدثهم إمام المسجد أنه منذ اليوم يصلي وحيدًا وكذلك هم يفعلون درءًا للضرر، فيما رفع الأذان بصوت مخنوق "متملكتش نفسي من البكاء. ده شي يفطر القلوب"، لكنه نفض عنه الأسى بتذكر حال أهل المنطقة الشعبية بحكم أنه واحد منهم "عمرهم ما شافوا المسجد مقفول الأمر صعب عليهم"، فإذا به يلقي كلمة عبر مكبر الصوت، يهون بها عليهم وعلى نفسه في آن واحد، دعاهم فيها إلى "الاستغفار وكثرة الصلاة على النبي فبها تنفرج الكروب".
طيلة الأيام الماضية يسد فتحي الخلل بما يجهله قاصدوا المسجد من أهالي المنطقة؛ يخبرهم عن شهداء الصحابة وأشهرهم "عبيده بن الجراح" ممن قضوا نحبهم فترة الطاعون الأسود، وأن الأذان الذي يسمعوه ليس جديدًا، يقص عليهم ما ورد في سيرة الرسول محمد، بأنه ذات ليلة ممطرة كسى الوحل أرجائها، أمر المؤذن أن ينادي "ألا صلوا في الرحال"، يشاورهم الأمر "ده وكان في طين ما بال في وباء دلوقت".
يلزم فتحي المسجد التابع لمحافظة القليوبية، بينما في جنوب القاهرة، تحديدًا منطقة المعادي، لا تقتصر مهمة إمام مسجد التوحيد عادل المراغي على حدود مسجده، بل يتابع محيطه "حواليا 5 زوايا أنا مسؤول عنها.. ممكن تتفتح والناس تصلي وتبقى مشكلة"، يوميًا قبل رفع الأذان يطوف المراغي، يتمم ويرصد المخالفة ثم يرسل تقرير إطمئنان لما يسمى "غرفة متابعة على مدار الصلوت الخمس".
منذ الإغلاق وتشدد وزارة الأوقاف على الأئمة بالتزام الإجراءات، ملوحة بالعقاب للمخالفين، لكن المراغي يرى أن ما يقوم به ليس استجابة للأوامر فحسب "أحنا بنحمي الناس.. زي ما كنا بندعو للجمع والصلاة نحن الأن ندعوهم لما فيه صالحهم وأمانهم"، يرى خطيب مسجد التوحيد في المشهد الجديد ودعوة الناس للمكوث في أماكنهم، حال أقرب لنداء النمل حين كاد أن يحطمه جيش سليمان وقتها "قالت نملة ادخلوا مساكنكم فنجت أمة النمل".
كانت الجمعة الأولى بعد غلق المساجد عسيرة على الأئمة. يقول فتحي "لقيت ناس جاية بحصير وعايزة تصلي"، وأخرون ملتبس عليهم الفهم، يخبرونه أن ذلك "منع مساجد الله أن تذكر فيها اسمه"، وشيخ كبير أذابت كلماته الحضور حينما بكى قائلاً "أنا واحد عنده 77 سنة عمري ما فوتت جمعة حتى لما كنت عيان قلت لهم شيلوني وودوني المسجد". احتوى إمام المسجد الجمع، بروية نهاهم عن الصلاة جماعة لسقوطها بفتوى أولي الأمر "صلوها ظهرًا لا ضرر ولا ضِرار"، ذكرهم بأنها رخصة في الشدائد، وكذلك فعلت ديار المسلمين في كل مكان بلغه "كورونا".
فترة عصيبة يعيشها أئمة المساجد، لكنها أشد على أيمن يسري، انقطع الإمام عن الصلاة بالأهالي لأول مرة منذ ثلاثة أعوام يشرف ابن مدينة ميت غمر على مسجد صغير في قريته أقرب إلى الزاوية، ومع مستجدات الأمور تحتم الغلق. كان أذان المغرب في الحادي والعشرين من مارس آخر موعد ليسري في المسجد، وثقه عبر هاتفه قبل أن يغادر، مكتفيًا بالصلاة في منزله شأن الجميع حتى يتبدل الحال.
تنقضي الجمعة الثالثة على غلق المساجد، كلما رفع الأذان انتاب صالح مشاعر جياشة "ما بين الأذان والإقامة دعاء مستجاب". يبكي إمام مسجد النور بينما يتذكر "لم تعد هناك إقامة. نحن ندعو دعاء الضعفاء"، فيطيل القنوت إلى الله برفع البلاء عن البشرية أجمع، فيما يغمض فتحي عيناه، يحدث نفسه "دي فعلاً نهاية العالم ولا إيه؟"، فيزيد من الاستغفار ويزيح عنه "الإحساس المريب" مواصلاً مهمته، يوقن خطيب الأوقاف أنها محنة في القلب منها منحة، لمس ذلك في بكاء أحدهم يومًا على سلم المسجد فجرًا، شابًا يعرفه لم يعتد الصلاة قبلاً لكنه أخبره "من ساعة ما المسجد قفل وأنا قلبي انفطر. بقيت أصلي في البيت بس أول لما يتفتح اتصل عليا عشان أجي أصلي معاك".
فيديو قد يعجبك: