"لم أر زوجي منذ 48 يومًا".. يوميات زوجة طبيب في مستشفى الحجر
كتبت – مارينا ميلاد:
"النهاردة ١٣ مارس عدى كده ٤٣ يوم!".. نشرت طبيبة النساء نانسي دياب (31 سنة) هذه الكلمات على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قبل 5 أيام، مرفقة بصورتها مع زوجها محمد علام وبنتيهما؛ كانت تشير بها إلى أن هذه المدة قد مرت دون لقائهما. واليوم قد زادت لـ48 يومًا؛ ولا يعرفن متى سيكون اللقاء؟
زوج نانسي؛ طبيب جراحة ومسؤول مكافحة انتشار العدوى بمستشفى النجيلة في مرسي مطروح، والتي تحولت إلى أول حجر صحي في مصر للمصابين بفيروس كورونا (كوفيد-19) في مطلع فبراير الماضي.
قبل جاهزيتها لذلك بأيام – تحديدا 31 يناير – كان محمد مع زوجته وابنتيه في بيتهم بطنطا؛ يقضي إجازته القصيرة المعتادة بعدما عاد من مرسى مطروح، وكورونا المنتشر في مدينة ووهان الصينية لم يكن وصل مصر بعد. لكن وصلته تأكيدات للأنباء التي سمعها قبل عودته: المستشفى ستكون مكان حجز المصريين العائدين من ووهان حال اكتشاف إصابة بينهم.
من المفترض – وقتها – ألا يذهب محمد؛ لأنه كان ينوي الحصول على إجازة امتحانات الماجيستير. فدار الحوار بينه وبين زوجته كالتالي:
- الحمد لله إن الموضوع ده هيحصل وأنت إجازة.
- بس هما لو احتاجوني أنا لازم أكون موجود.
- لأ طبعا فيه عندك امتحانات!
- طيب أنا رايح آخد إجازة الامتحانات وراجع على طول.
- طيب متتأخرش هناك عشان تلحق تذاكر.
- حاضر يومين وراجع بإذن الله.
لكن محمد لم يعد منذ أن غادر بيته في التاسعة مساء ذلك اليوم.
وزع الأطباء الموجودون أنفسهم: جزءًا على وحدات حول المستشفى لخدمة الأهالي فيما يخص الفحوصات والكشوفات للأمراض العادية، والجزء الأخر في الحجر. وفي يوم 3 فبراير اتصل محمد بزوجته؛ ليطلب منها ألا تغضب منه بسبب ما قرر أن يفعله.
- أنا دخلت الحجر الصحي.
- ليه يا محمد هو بالغصب؟!
- لا أنا دخلت بمزاجي عشان ده الصح وعشان أحافظ عليكم.
- لا ارجع.
- متقلقيش اللي جايين هيكون مكشوف عليهم ومفيش خطورة.
- طيب هتيجي امتى؟
- هما ١٤ يوم بس وجاي.
قرر محمد أن يتعامل مع المجهول، مع شيء غامض يتعرف عليه العالم. أما زوجته فلم تملك سوى الدعاء له أن يوفق في مهمته، وألا يكون بين المصريين القادمين من الصين أحد مُصاب، ويمر الـ14 يوما بسلام.
بدأ محمد عمله في هذا المستشفى قبل عامين ونصف العام تقريبا عندما جاء له تكليف بالعمل هناك باعتبارها إحدى المناطق النائية التي تحتاج لأطباء. حينها كان أنهى "سنة الامتياز" بمستشفى جامعة طنطا بعد تخرجه عام 2015، وتزوج نانسي.
وافق محمد على التكليف. ومن المعروف في أوساطهم أن الطبيب الذي يخدم في منطقة نائية يمكنه بعد ذلك الحصول على امتيازات أو العمل في مكان أفضل؛ لكنه – بعد أن ذهب – لم يرغب فيما يتمناه أمثاله وفضل البقاء هناك والذهاب إلى طنطا في الإجازات.
تقول نانسي، التي ذهبت إلى مرسى مطروح انتدابًا أيضا أثناء دراستها: "الناس هناك ودودة جدًا ومتعاونة، والمستشفيات بيتوفر لها احتياجاتها، والمكان هادئ وجميل".
خلال أيام حجر العائدين في الفندق القريب من المستشفى؛ داومت على الاتصال بزوجها للاطمئنان عليه، وكان يملك الوقت ليتواصل معها باستمرار؛ فهو في حالة تأهب لكن الجميع بخير.
مع قرب انتهاء فترة الحجر والتأكد من خلو العائدين من الفيروس؛ تنفست نانسي الصعداء وتوقعت عودة زوجها فورًا، لكن لسوء الحظ لم يحدث ذلك؛ فأعلنت وزارة الصحة أول إصابة في مصر لشخص أجنبي ونقله إلى مستشفى النجيلة.
وقع محمد في اختيار ثانٍ بين عودته إلى بيته وزوجته وبنتيه أو الاستمرار في الحجر؛ وكرر نفس اختياره الأول، ولم يُرجعه رفض زوجته؛ فأحبطت نانسي من جديد، وانتقلت للعيش مع والدها ووالدتها ومعها ابنتاها البالغتان سنة وثلاث سنوات.
تسأل ابنته والدتها وجدها عليه، وتلومه حين يتصل؛ لأنه لا يأتي فترد عليها شقيقة والدتها: "بابا بيحارب كورونا". لم تفهم الآن لكن والديها يتمنيان أن تفهم هذا الدور فيما بعد.
عندما ظلت مصر خالية من كورونا لفترة؛ لم ينقطع أمل نانسي من عودة زوجها الوشيكة. باتت تتابع الأخبار يوميًا أثناء عملها بالمستشفى وعند عودتها إلى البيت؛ وتتمنى ألا تقرأ ذلك الخبر: اكتشاف حالات إصابة بكورونا في مصر. لكنه للأسف خبر متوقع حدوثه.
بدأ الأمر بالإعلان عن أجانب عادوا من مصر وتم اكتشاف إصابتهم؛ وجرى فحص المخالطين لهم؛ ثم اكتشاف إصابات مصريين بين نزلاء وعاملين في باخرة سياحية بالأقصر، واتسعت الدائرة لتشمل سيدة ورجلًا في محافظة الدقهلية ومخالطين لهما. وتوالت بيانات وزارة الصحة لتعلن – حتى أمس الثلاثاء - وصول العدد إلى 196 حالة ضمنها 26 حالة تم شفاؤها إضافة لـ6 حالات وفاة.
مع زيادة الأعداد؛ زادت مدة بقاء محمد في مستشفى الحجر بعيدًا عن زوجته وابنتيه، وقلت فرص التواصل بينهما لانشغاله طوال اليوم. "عرفت من ناس غيره إنه مبينامش بيطبق باليومين ولما بينام حاطط كنبه في مكتب عشان ينام عليها شايل هم كل واحد جوه وبره. كل ده عشان يحاول إن الموضوع ميوصلش ليا ولأولاده وأهله".
يحاول محمد أن يجد وقتا ليجلس في مكتبه وينشر فيديو على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"؛ لينصح الناس بما عليهم فعله.
مع تطور الأمر؛ تغيرت لهجة محمد في الحديث مع نانسي؛ شدد نصائحه عليها بارتداء الماسك في المستشفى أثناء عملها، بعدما كان يطمئنها ولا يطلب منها ذلك.
ولأنها طبيبة؛ فبقية الإجراءات الوقائية تعرفها عن ظهر قلب وتتبعها حتى في الأيام العادية لكنها ازدادت حرصا وحذرا هذه الأيام: "مقدرش أقعد في البيت. الدكاترة معندهمش إجازات. ده حتى يوم العاصفة كان عندنا نبطشية في المستشفى".
تفهمت نانسي قرار زوجها، عندما عرفت أن صديقتها طبيبة ذهبت انتدابًا في مستشفى النجيلة لمدة 6 أشهر ثم قررت البقاء وشجعت صديقاتها على التطوع، وتقريبا لم ترَ أي منهن أهلها منذ بداية الحجر: "هو شجاع لكن بصراحة البنات أشجع. كل التخصصات من كل المحافظات اختاروا يكونوا موجودين عشان يساعدوا".
ترى نانسي أن الناس أدركت الآن دور الأطباء، ولم تكن تقدره من قبل، واصفة ذلك بقولها "لسه حاسين بينا اليومين دول بعد ما كان كل ما يحصل مشكلة في مستشفى يقولوا الدكتور السبب".
قد يظن البعض أنها باعتبارها طبيبة، سيختلف قلقها عن زوجات الأطباء الآخرين؛ لكن نانسي تعارض ذلك الاعتقاد بشدة؛ فتقول إن الأطباء يذهب تفكيرهم للأسوأ وتزاحم الأسئلة رأسهم دائما: "لو الناس مطمنة إحنا بنكون قلقانين. عارفين إن العلاج هياخد وقت بس يا ترى وقت قد إيه؟ يا ترى هيحصل طفرة وتطور للفيروس؟!".
لكن رغم ذلك تبدل شعور نانسي عما كان عليه قبل 45 يوما؛ لم تعد رافضة كما كانت في البداية، بل أصبحت لا تريد أن ينسحب زوجها مما بدأه، لا يترك المعركة دائرة: "إحنا في الذروة، مينفعش أقوله ارجع، بس طبعا جوايا خوف كبير".
فيديو قد يعجبك: