لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"أم الهِمم".. مشوار "نانسي" الفلسطينية مع 3 أبناء من ذوي الإعاقة

02:25 م السبت 25 يناير 2020

نانسي الطويل وابنها

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-دعاء الفولي:

وضعت نانسي الطويل رأسها على مقود السيارة، الزحام خانق، سجى ابنتها تتملل، أمجد يبكي، وحمزة يُردد أنه يبتغي العودة للمنزل. كانت الأم بمفردها، لا تستطيع الرجوع بالسيارة للخلف، وفجأة بكت نانسي، خارت قواها، استعادت كل شيء؛ الركض بين الأطباء لعلاج الأبناء الثلاثة المصابين بعدة إعاقات، محاولاتها المستمرة لخلق ظروف أفضل لهم، مجال دراستها الذي طوّعته ليخدمهم، أيامها الممتلئة بتفاصيل مُوحشة وأخرى سعيدة. 26 عاما مرت على مولد أكبرهم، ولم ينقص حُب نانسي تجاههم ذرة، تتفاخر بهم، تُغذي صبرها بأن الرحلة علّمتها الكثير، كشفت لها عن قوة أسرتها، شجاعة زوجها و"معجزات الله".

‎‫في مدينة رام الله بدأت حكاية العائلة الفلسطينية، وُلد ثلاثة من أبناء نانسي الخمسة مُصابين بالتوحد واضطراب فرط الحركة والإعاقة الذهنية "ولادتهم كانت طبيعية وحركاتهم ومناغاتهم وأكلهم وسنانهم.. بعد سن السنتين صاروا يتحركوا كتير"، سجى هي الأكبر "كانت وهي صغيرة لما أقولها أعطيني الطابة تعطيني شيء آخر.. أقولها تعالي متجيش"، لاحظ الأبوان شيئا غريبا، بحثا عن متخصص يوضح لهم، حتى أدركا الأمر "انصدمنا صحيح.. بس انا ما في يوم سألت ربنا ليش حصل ولا جزعت".

‎‫كان طريقة اكتشاف مرض الأبناء الثلاثة مختلفة "أمجد مثلا كان منطوي جدا وعنده حركة زائد"، فيما انطبق الأمر ذاته على أصغر الثلاثة حمزة صاحب الـ18 عاما.

1

‎‫حينما تم تشخيص سجى، أدرك الأبوان أن طريق التعافي شبه مُغلق "الخبرات محدودة جدا عنا بالضفة.. كان من الصعب نتجه لحدا"، دفعت الأسرة مبالغ مالية ضخمة، تنقلوا بين أطباء عديدين، حتى استقروا على السفر للأردن، تزامن ذلك مع قراءتهم بشكل مكثف عن حالة سجى "صرنا مثقفين.. كنا نقول إنه لو الأطباء عنا قليلين بفلسطين لازم نصير إحنا ممرضين لحتى نراعي ولادنا".. تحكي الأم.

يعاني اثنان بالمئة من الفلسطينيين من الإعاقة حسب تقرير أصدره جهاز الإحصاء الفلسطينى عام ٢٠١٨، غير أنه لا توجد مراكز حكومية مؤهلة لاستقبال حالات التوحد أو الإعاقات الذهنية.

‎‫سيناريو السفر تكرر أيضا مع أمجد صاحب الواحد وعشرين عاما وحمزة، لكن الأمر لم يكن يسيرا "كنا نحاول نُلبي احتياجاتهم ونوزع وقتنا.. نطوف بين الدكاترة ونفتح ملفات ونجيب أدوية"، لفترة ظلت حياة الأم والأب بين الأردن ورام الله، حتى قابلا طبيب صحة نفسية اتفقا معه على المتابعة من خلال الهاتف أو الإنترنت، فيما بقيت أزمة أخرى وهي عدم توفر الدواء بفلسطين، يُعاني الشابان من فرط الحركة "هادا بيحتاج دواء معين مش متوافر في فلسطين.. بنضطر نحكي لقرايبنا اللي جايين من السعودية أو دولة أجنبية يجيبوه"، يحدث ذلك بضوابط "ما بيصير يجيبوا كميّة كبيرة عشان الاحتلال ما يوقفهم في المطار".

2

‎‫منذ اكتشاف المرض، قرر الأبوان ألا يلتفتا حولهما "ما بنسمع لكلام الناس: ليش بنعلمهم؟ ليش بنخرج بيهم؟ ليش وليش.. ولادي بني آدمين ومن حقهم يتعاملوا على هذا الأساس"، وضعا خطة لكل شيء، كانت نانسي تقضي أياما تتحرك بين المدارس المختلفة في الضفة الغربية ليقبلوا أحد أبنائها "فيش مدارس مخصصة لحالاتهم وكان بدي يدخلوا مع زمايلهم العاديين لحتى يتعودوا على المجتمع"، سمعت الأم الكثير، قتلتها نظرات الشفقة والأسئلة ألف مرة، غير أنها ما استسلمت، كانت تُلطف الأجواء أحيانا، تُوعي الآخرين بمشكلة أبنائها أوتنتزع حقهم في التعليم "إذا مدير مدرسة ضل يرفض يدخل ابني أروح على التربية والتعليم أجيب ورقة إنه القانون بيلزم بالدمج وأعود وأدخّل ابني".

‎‫نانسي ملاك أولادها الحارس، تعرف شخصيات الثلاثة كخطوط كفّيها؛ سجى تُحب أدوات التجميل "كانت تلعب بأدواتي وهي صغيرة.. تحط روج وتقف في المراية تضحك.. كان نفسها تصير خبيرة تجميل"، مازالت الشابة تفعل ذلك لكن بإشراف أكبر من الأم "كل ما عمرها بيكبر بيحصل تلف في المخ للأسف، ما بتصير تفرّق بين الأشياء زي الأول"، فيما يُحب أمجد، الشقيق الأوسط، الالتصاق بُها، يُحدّث نانسي أنه يريد فقط البقاء لجانبها "وبعدين ياخدني معه ع الجنة"، أما حمزة فهو أكثرهم اجتماعية "وأخفّهم مرضا، بيحب الناس كتير ودمه خفيف"، يختلط صوت نانسي بالضحك والدموع قائلة: "كل ما بيشوف عُرس بيقولي ماما إمتى أتزوج وألبس بدلة حلوة متل هاي العريس؟".

‎‫رسّخت الأم في نفس حمزة العناية بأخويه، خاصة سجى "بقوله بابا دير بالك على أختك.. هي محتاجالك"، زرعت ذلك أيضا في قلب ابنيها الآخرين الذين لا يعانيان من إعاقة "من وهما صغيرين بياخدوا بالهم من إخوتهم.. حتى إنهم بقوا أكبر من أعمارهم بسبب المسئولية ياللي حملوها"، لكن ذلك التكاتف ساعد نانسي على تطوير أدواتها، من سيدة تعتني بأبنائها لطالبة تدرس التربية بشكل أكاديمي حتى حصلت على درجة الماجستير.

3

‎‫تزوجت نانسي عقب حصولها على شهادة التوجيهية (الثانوية العامة)، لم تُتح لها ظروف المنزل استكمال دراستها، تجددت الفكرة بعد ميلاد سجى، درست التربية في جامعة القدس المفتوحة، خاضت الكثير من الورش التدريبية داخل الضفة وخارجها، قرأت وراسلت أساتذة في التربية الخاصة، ثم حصلت على ماجستير في ذات التخصص "كنت أستيقظ الثانية صباحًا أذاكر دروسي للصبح ثم أبدأ يومي"، حتى عُرضت عليها وظيفة في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية برام الله "دوري هُناك هو تقديم الدعم الاجتماعي والنفسي لأمهات ذوي الإعاقة ومساعدتهن".

‎‫العمل جعل نانسي أقوى، أكثر وعيا بقضية أبنائها، بينما تتلقى هي الدعم من الأمهات أحيانا "لما بنحكي سوا حتى لو انا اللي بساعد فهادا دعم ليا"، يطرب قلبها حين تتحسن علاقة إحداهن بابنها، وتطير روحها فرحا حين تصير الأم أكثر تقبلا له، تظل نصيحتها الخالدة لهن "حبوا أولادكم وتعلموا عشانهم.. وافخروا بيهم كل الفخر"، طبقت نانسي ذلك على أسرتها.

‎‫يوم السيدة الأربعينية مُقسم بشكل صارم؛ تستيقظ فجرا، تطبخ لزوجها، تُجهز أبنائها الثلاثة "سجى بتروح على جمعية وأمجد كذلك"، فيما يمكث حمزة رفقة جدته بالمنزل، تخرج الأم للعمل، ثم تصطحب الفتاة والشاب عقب انتهاء الدوام، تعود للمنزل وتبدأ الشق الثاني من اليوم "بنقضيه في رواية القصص".

تجلس سجى وأمجد وحمزة أمام نانسي مُنصتين، تحكي لهم عن الأميرة الجميلة، أو الفارس الشجاع، تُغير نبرة صوتها، تُقلد شخصيات القصة التي ترويها "هاي من أحلى الأوقات الي بقضيها بحياتي"، قبل أن تُعد العشاء لزوجها أو تنظف المنزل، يساعدها أبنائها الثلاثة في ذلك ويبدو الأمر كأنها لعبة "بنطبق الغسيل ونرميه على بعض ثم نطبقه سوا ونحطه في الدولاب"، أو تطلب من أمجد ترتيب مائدة الطعام لوالده، تعرف أن الحياة فيها أثرٌ من نور، تقتنصه هي من ثنايا التعب.

4

‎‫زوج نانسي هو الرُكن الذي تحتمي به. يُساعدها قدر استطاعته، يُشجعها على التعلم ويربت على كتفها حينما تتعب، خاضا الكثير سويا؛ لحظات مُرعبة كما تذكرها الأم "متل لما ما بنعرف نجيب الأدوية.. ساعتها الأولاد نومهم بيكون قليل وأكلهم أيضا"، تُساعد بعض الأدوية على تثبيط فرط الحركة، في إحدى المرات لم يستطيعوا الحصول عليها لأسبوعين "كانوا يضلوا صاحيين أحيانا 48 ساعة متواصلة".

‎‫في أوقات أخرى، يتعيّن على نانسي خوض الحرب بمفردها "كنا نمرؤ في أيام بكون أنا مريضة وعليا سخونة وحرارة وبدي نام ولو ساعة وأمجد يناديني حتى ياكل وسجى محتاجة شيء والتالت بيبكي وزوجي بالشغل"، لا تعرف كيف مرت تلك اللحظات ومثيلاتها "مرات بنكون في السوبر ماركت..يوقع حدا منهم حاجة وهو شكله شاب كبير.. ببدأ قوله ولا يهمك حبيبي يلا نرجعها مكانها وقول أسف لعمو"، يلتفت الناس تجاهها، تتنوع نظراتهم بين التعاطف والتشجيع، لكن أسوأها نظرة "ليش نزلتيه معك ع السوق وهو بهاي الحالة؟".

تنفض نانسي عنها ذلك، كما فعلت في المدارس، فأبنائها الثلاثة مروا على المرحلة الدراسية الأساسية، لم يستكمل التعليم التوجيهي سوى حمزة بطبيعة الحال، لكنها قررت إشعارهم أنهم مثل بقية رفقائهم، كانت عقب انتهاء كل سنة دراسية، تطبع شهادة مُزيفة لسجى ولأمجد، تكتب فيها "مبروك التخرج"، وتلتقط لهما الصور احتفالا حتى ولو بشكل كاذب، إذ لم يخض الشقيقان الامتحانات، أما حمزة فتحتفظ له بصورة مع الرئيس الفلسطيني عباس أبو مازن، وهو يسلمه شهادة التخرج، تعلقها بسعادة في البيت.


5

من أريحا، الخليل، طول كرم، غزة وكل أنحاء فلسطين تتواصل السيدات مع نانسي، يسألونها في تفاصيل عدة "كيف بخلي ابني احسن؟ كيف بخليه يتعلم؟"، تمد نانسي بعض الأمهات بالقوة، بينما تبكي مع أخريات "اما بنفتكر الطريق والتعب ما بنقدر نحوش دموعنا.. بس أنا بقول للأم ولنفسي ابكي وما تخافي.. البكا طيب مادام واقفين على رجلينا".

6

‎منذ أيام، صارت نانسي جدة، وُلد حفيدها الأول ريان، طار قلبها فرحًا، لم يلهها الاحتفال عن قرة أعينها؛ سجى وأمجد وحمزة، مازالت تروي لهم قصة كل يوم، تُخرج صندوق ألعابهم وتجالسهم، تذاكر من أجلهم ولأمهات أخريات، تتضرع لله كي "نضل حواليهم انا ووالدهم دايما وما يحتاجوا لحدا لأن اليوم اللي بمرض فيه بيمرض كل البيت"، تتمنى دراسة الدكتوراه في نفس التخصص "في الأردن لأن الجامعات هناك أفضل من هنا"، تُحصى -بحكم عملها- عدد الأطفال المصابين بإعاقة في الضفة الغربية، فيكون حوالي 6000 طفل بالإضافة لآخرين لا يُبلغ عنهم الأهل، أصبح المجتمع أكثر استيعابا لهم، يُطمئنها ذلك، لكن الطريق مازال طويل.

فيديو قد يعجبك: