"ركود تام".. كيف مرّ عيد الأضحى على جامعي جلود سور مجرى العيون؟
كتب- رمضان حسن وأحمد شعبان:
على كرسي بلاستيكي، جلس "رأفت فريد"، أحد جامعي الجلود، أمام سور مجرى العيون في حي مصر القديمة، يدخّن الشيشة، وحوله جلود متناثرة يغطيها الملح، يمرّ الوقت عليه بثِقَل في موسم عيد الأضحى الذي انتظره وغيره من العاملين في الجلود وصناعتها بفارغ الصبر على أمل تحقيق ربح. غير أن هذا العام شهد انخفاضاً كبيراً في أسعار الجلود، يعتبره رأفت "انهياراً، أضاع فرحتهم بالعيد".
"السنة اللي فاتت كان فيه انتعاش وحركة شوية لكن السنة دي ركود تام، الناس بترمي الجلود، والتجار مبقوش يشتروا لأنه واقع عليهم بخسارة"، يقولها الرجل متحسرا على الأمل الضائع.
في ثالث أيام عيد الأضحى، بدا المشهد هادئاً أمام سور مجرى العيون. عددٌ قليل من جامعي الجلود ينتظرون قدوم المُضحّين أو أصحاب محلات جزارة حاملين جلود الأضاحي، يترقبون توقف السيارات الملاكي أمامهم. لكن سرعان ما تنتهي أغلب محاولات الشراء مع الزبائن بالفشل "الناس لما بتعرف السعر بتاخد الجلد بتمشي وتقولك أنا أرميه أحسن"، وفق ما يقول "كيبر أبو العينين"، الذي وقف أمام إحدى بوابات سور مجري العيون، ناحية عين الصيرة.
يتذكر "كبير" عيد الأضحى من العام الماضي، حين كان يمتلك أحد أكبر المدابغ الموجودة خلف سور مجري العيون، قبل أن يهدمها الحي مع غيرها لنقلها لمشروع مدينة الجلود بالروبيكي، حيث بدأ الرجل برفقة إخوته الـثلاثة في تجهيز المكان المخصص له لافتتاح مدبغتهم الجديدة "قولت أجمع جلود السنة دي، علشان دا أول عيد يمر علينا والمدابغ مهدودة، ودا موسم وما ينفعش أسيبه، علشان لنا اسمنا في السوق ومعروفين".
لم يتوقع صاحب الـ42 عاماً، أن يصل به الحال إلى جمع الجلود مرة أخرى بعدما ترك هذه المهنة قبل ربع قرن، حين تمكنّ والده من شراء مدبغة جلود بالمنطقة: "آخر مرة جمعت فيها جلود من أكتر من 25 سنة، لما كنت لسه صبي، السنة اللى فاتت كنت بأخد الجلود دي من أصحاب الكارو متملحة وجاهزة على الشغل، ولكن دلوقتي أصحاب المدابغ اللى لسه ما اشتغلوش في الروبيكي، بقوا يلموا جلود".
يعدد "رأفت" أسباب الركود هذا العام، فبعد أن كانت أسعار الجلود، البقري تحديداً، العام الماضي، تتراوح من 200 إلى 600 جنيه، بات سعرها الآن يتراوح من 20 إلى 50 جنيهاً، انخفاض كبير يعزوه الرجل الذي يعمل في هذه المهنة منذ 40 عاماً، إلى انخفاض أسعار الجلود عالمياً "صناعة الجلود عاملة زي البورصة بتطلع وبتنزل"، فضلاً عن الارتفاع الكبير في أسعار المواد اللازمة لدباغة الجلود.
تقطع حديثه سيدة ثلاثينية، رفضت أن يشتري منها جلد أضحية بـ20 جنيهاً، ودخلا في فاصل من الأخذ والرد حتى اضطر "رأفت" في النهاية أن يدفع لها 50 جنيهاً، مشهد يراه الأنسب للتعبير عما وصلت له حال مهنته مقارنة بالسنة الماضية.
"كنت بشتري الجلد بـ 700، و800 جنيه، السنة دي باخد الجلد البقري بـ50 جنيها، والجاموسي بـ 40"، يقول أبو العينين مؤكداً أن صناعة الجلود تنتعش كلما ازدادت أسعار الجلود "لأني هعرف أكسب وأغطي مصاريف الدباغة والعمال، إنما السنة دي بالشكل دا مفيش مكسب".
فيما يقول رأفت بأسى إن جوال الملح اللازم لحفظ الجلود ارتفع سعره ووصل إلى 60 جنيهاً "عشان كده مبقناش ناخد جلود الخرفان، هتلاقي جلودها مرمية، لأن سعرها قليل أوي 10 أو 20 جنيه بالكتير يعني مش هيجيب مصاريفه". فيما يذكر أنه بلغة الأرقام فقد باع الرجل جلود بقيمة 100 ألف جنيه في موسم عيد الأضحى العام الفائت، بينما يتوقع أن ينخفض المبلغ هذا العام إلى 20 ألف جنيه فقط.
أمر جديد طرأ هذا العام هو هدم جميع مدابغ سور مجرى العيون تقريباً، التي استقرت فيه لعقود طويلة، ونُقل بعضها إلى مدينة الروبيكي ، على بعد 45 كيلومتراً من وسط القاهرة، والتي تمتد من طريق القاهرة- الإسماعيلية وحتى طريق القاهرة- السويس الصحراوي. وبعدما كان بعض العاملين في تجارة الجلود يملكون ورشاً للدباغة، صاروا يكتفون بجمع الجلود وبيعها إلى أصحاب المدابغ في مدينة الروبيكي، تغيّرت أحوالهم هذا الموسم مع قدوم عيد الأضحى "العيد السنة اللي فاتت كان فيه انتعاش وحركة شوية عشان نص المدابغ كان موجود مكنتش اتنقلت لسه، ولما اتهد النص التاني كل الدنيا وقفت"، وفق ما يقول رأفت.
ويضيف "محمد بحيري"، الذي وقف على بعد أمتار منه، أنه نتيجة لذلك تراجع عدد من التجار عن جمع الجلود هذا العام "الناس اللي كانت بتشتري مشيت وعدد التجار قل ومبقاش مغطي كمية الناس اللي بتبيع سواء من ناحية العمالة أو الوقت، فبقت الجلود بتترمي وتبوظ، لأن مفيهاش مكسب خالص، كنت بلم الجلد من الشارع بـ400 جنيه وبسلمه للمدبغة بـ500 جنيه وبكون مظبط ومتفق معاه من قبل العيد، إنما السنة دي بشتريه بـ40 وأبيعه بـ50 جنيه، فالخسارة حتمية".
فيما يذكر رأفت أنه كان يجمع الجلود ويبيعها لأصحاب المدابغ، والذين توقفوا بدورهم عن شرائها "لأن عندهم بضاعة قديمة لسه متخزنة مش عارفين يعملوا فيها إيه".
التغيّر الذي أصاب سور مجرى العيون وتجارة الجلود يلمسه "بحيري" في الكمية المحدودة التي اشتراها ووردها إلى المدابغ حيث وصل عدد الجلود إلى 15 فقط حتى ثالث أيام عيد الأضحى هذا العام، بينما وصلت العام الفائت إلى 55. ويلمسه كذلك في الهدوء الذي يخيم على السور وقلة الحركة والأرجل المتوجهة إليه "كان كله تجار ومليان جلود لكن السنة دي اللي موجودين يتعدوا على صوابع الإيد، قبل كده ما كنتش تعرف تمشي من الزحمة والتجار"، يقولها بحزن صاحب الـ28 عاماً.
يرى "بحيري ورأفت وكيبر" أن السبب الرئيسي فيما أصاب صناعة وبيع الجلود هو تراجع عملية التصدير خاصة إلى إيطاليا "التصدير متوقف بقاله فترة، شركتنا كانت بتصدر لدول شمال أفريقيا زي تونس والمغرب والجزائر، وكان في شركة بتاخد الجلد النضيف أوي وتصدره لإيطاليا".
أيضاً هناك التكلفة المرتفعة اللازمة لنقل الجلود إلى مدينة الروبيكي "السنة اللي فاتت كان عندي مدبغة هنا، وبعد ما اتهدت أخدت تعويض علشان مش هقدر أروح الروبيكي، مصاريفها كتير وأنا برضو على قدي، فقولت أطلع بالتعويض أحسن، ودلوقت بقيت اشتغل زي الصبيان اللى كنت بشتري منهم الجلود للمدبغة"، يقول "رأفت"، موضحا أن تكلفة نقل الجلود إلى الروبيكي تتكلف ألف جنيه.
بينما يذكر محمد بحيري أنه وجد أن الجلد الواحد سيكلفه 50 جنيهاً لنقله "العربية مش بتحاسبنا بالمشوار إنما بعدد الجلود"، لذا فضّل أن يُرسل جلوده إلى واحدة من المدابغ القليلة المتبقية في عين الصيرة، خاصة عند حساب ما يتكلفه في عملية دباغة الجلود من أجل بيعها لزبائنه على هيئة مفارش وغيرها.
"الكيماويات والمواد اللازمة للدباغة تكلف 400 جنيه"، يشرح رأفت أنه بعد أن يشتري الجلد من زبائنه ويغطيه بالملح حفاظاً عليه من التعفن "كأني بحطه في التلاجة وبحميه من البكتيريا"، بعد ذلك يوضع في براميل كبيرة تحتوي على الصودا الكاوية وحمض الكبريتيك ثم يوضع فيه "كروم" أو الدباغة، ويتم تقطيره وشده على ألواح خشبية. كل هذه المراحل والمواد اللازمة لإتمام عملية الدباغة تتطلب تكلفة مادية مرتفعة، سواء في الحصول على المواد أو أجر العمال "كان معايا 5عمال ، العامل كان بياخد هنا 80 جنيه، هناك في الروبيكي مش هياخد أقل من 170 جنيه في اليوم، لأن فيه مواصلات وتكلفة تانية".
فيديو قد يعجبك: