14 يوما خارج نطاق الخدمة.. مغامرة طبيب مصري في بحيرة فيكتوريا
كتب- محمد مهدي:
يعلم المقربون من طبيب الأسنان "عبدالرحمن محمود" مدى عشقه للسفر، لكنه حينما أخبرهم برغبته في زيارة جزيرة نائية قريبة من بحيرة فيكتوريا، في محاولة لاكتشاف ذاته وقدرته على تحمل العيش في ظروف صعبة وبدائية، تلقى تعلقيات رافضة لقرارها ومخاوف من تعرضه للخطر والأذى داخل إفريقيا "اللي شوفته هناك خلاني أمر بتجربة عمري ما عشت زيها" يقولها محمود بابتسامة.
عبر الإنترنت حصل "محمود" على تأشيرة "أونلاين" لدخول كينيا، قبل أن يبحث على موقع مُتخصص في توفير أماكن للإقامة دون مقابل "لقيت راجل من جزيرة (مفانجانو)-تقع بن كينيا وأوغندا وتنزانيا- بيعرض استضافة الناس مقابل إنهم يساعدوه في المزرعة بتاعته" جهزّ حقائبه في أواخر يوليو 2018، انطلق إلى نيروبي، مكث ليومين قبل أن يستقل حافلة شعبية "أرخص أتوبيس في البلد، عشان التكلفة، عُمرها من السبعينيات" متوجهًا إلى مدينة "مبيتا" الساحلية "دي اللي هأخد منها عبارة للجزيرة".
8 ساعات قضاها في الطريق إلى المدينة الساحلية، ينظر إليه أهالي البلد بدهشة "كنت الأجنبي الوحيد في الأتوبيس" لم يتفاعل معهم كثيرًا "كنت مقرر أنعزل عن الناس شوية وأتواصل مع الطبيعة وبس" عند وصوله إلى "مبيتا" فوجيء بوجود زائر آخر للجزيرة "بنت بلجيكية اسمها شاغي، مُدرسة وكانت حابة تخوض نفس التجربة" وصلت العبارة ونقلتهما إلى الجزيرة الموعودة "خدنا ساعتين في المايه، منظر بحيرة فيكتوريا وَهم، لحد ما وصلنا أخيرًا".
أشبه بلحظة اكتشاف النار، دهشة وبهجة تملكت الأطفال عندما شاهدوا "محمود" و"شاغي" ينزلان من العبارة إلى الجزيرة "فضلوا مبحلقين فينا، ويجروا ورانا في كُل مكان" جزيرة مفانجانو تضم 27 قرية صغيرة "لما قابلنا جون، قالنا هنمشي 4 كيلو عشان نوصل لبيته، احنا اللي بحلقنا وقتها من طول الطريق" قطعوا المسافة كاملة بين الأشجار "لحد ما وصلنا لغابة، لقيناه بيقول دا بيتي" على بُعد أمتار منهم مباني من الطين متفرقة بصورة عشوائية "عرفت إني دي بيوت العيلة، وإننا هنعيش في كوخ منهم لمدة أسبوعين".
داخل أحد الأكواخ دلف محمود "مبني من الطين، فيه سريرين بسوى الأرض، والسقف عبارة عن صاج معدن" الحمام يبعد نحو 500 متر "والمايه نشربها من خزان بيتجمع فيه المطر" منحه جون كشاف صغير يعمل بالطاقة الشمسية لاستخدامه ليلًا "لو حسيت بأي مشكلة أو احتاجت إضاءة" اتفق معهما على الاستيقاظ مبكرًا لمساعدته في الحقل، وضع الشاب العشريني حقيبته جانبًا قبل أن يخلد إلى النوم من الإرهاق منتظرًا التعرف على الروتين اليومي للأسرة.
في الخامسة فجرًا استيقظ الجميع، قادهم "جون" إلى مزرعته التي تبعد عن البيت نحو 45 دقيقة من تسلق منحدرات والسير بين الأشجار، حتى توقفوا عند تلة مغطاه بمحصول الذرة "شغلتنا إننا نجمع المحصول وننزل بيه المسافة دي كلها لحد البيت" تحت الشمس الحارقة، انهمك "محمود" رفقة الفتاة البلجيكية وأفراد الأسرة في العمل "المنطقة أشبه بمنحدر، فكنا كل شوية نتزحلق واحنا شغالين ونتعور" لكن المشهد من أعلى كان خياليًا "وأنا شايف الجزيرة كلها من فوق كنت بحس إني ملك الكون".
قبل المغيب انتهوا من جمع عدد وافر من المحصول في شكائر "عملنا شقلباظات لحد ما رجعنا بالمحصول" لتبدأ الخطوة الثانية "نفَرط الدرة بإيدينا، أنا صوابعي اتقشرت من كُتر الشُغل" لكنه تكيف سريعًا مع الأمر، خاصة مع عدم انزعاج "شاغي" من الأمر واستمتاعها بالتجربة قدر الإمكان "هي بـ 100 راجل، بقيت رفيقة الكفاح والمرمطة على الجزيرة" جاء وقت إعداد الغداء فتركوا الذرة لتناول طعامهم.
على مدار 14 يومًا، كانت الوجبات واحدة "عجين اسمه أوجلي، زي العيش، ملوش طعم بس بيكبس البطن ويشبع، ومعاه كرنب متخرط مغلي" فضلًا عن ورق شجر مطحون يُسمى pumpkin بجانب السردين "لازم واحد بيعدي على الناس يصبلهم مايه يغسلوا إيديهم، ونصلي قبل الأكل" تغير الوضع ذات يوم "شاغي قررت تعمل ثورة في الغابة وتفطرنا مرة pancakes لأنها لقيت معاها شوية زبدة".
تمر الساعات بطء خاصة حينما تُمطر السماء في المساء" مزيج من أصوات المطر على السقف الصاج، مع فحيح التعابين، كوكتيل مُرعب" تأتي اللحظة الأصعب حينما يرغب في دخول الحمام "هو عبارة عن حفرة متحاوطة بصاج معدن في وسط الغابة" لذا كان لزاما عليه عمل ترتيبات عدة "أحاول أظبط مواعيد محددة، ولو احتاجت أروح بسرعة بجري في الغابة وسط المطرة والضلمة لحد ما أوصل".
أمر آخر طريف يتعلق بالحمامات في الجزيرة "لما حبيت أخد دش، جون قالي هات الفوطة وتعالى ورايا" تحركوا لنحو 4 كم وسط عشرات من الأهالي الذين انضموا إليهم خطوة بعد خطوة حتى بحيرة فيكتوريا "طلع إنه فيه مكان للاستحمام جزء للرجالة وجزء للستات" باعتيادية شديدة غاص الجميع داخل مياه البحيرة، ظل مصدومًا للحظات قبل أن ينضم إليهم.
خلال وجوده بالجزيرة، تساءل الطبيب المصري عن المكان المخُصص لعلاج الأهالي "جون وداني هناك، لقيت كوخ قاعد فيه واحد بيكتب روشتات" اقترح المساعدة وعلاج أبناء الجزيرة دون مقابل "الخبر اتبعت للجزيرة كلها لقيت طوابير جات على طول" لساعات تعامل محمود مع عدد من الحالات وسط سعادة من المرضى "اكتشفت إن مفيش عندهم حد متخصص وبيعالجهم بشكل دايم".
طوال 14 يوما، ظل هاتف "محمود" أغلب الوقت خارج نطاق الخدمة، لا وجود للكهرباء أو الإنترنت، ابتعد تماما عن وسائل التواصل الاجتماعي، لم يتلقَ اتصالات من أسرته وأصدقائه سوى مكالمات نادرة، من أجل "شحَن" الهواتف لابد من الذهاب إلى قرية تبعد 7 كيلو متر "عشان نروح للراجل الوحيد اللي عنده كهربا في الجزيرة "فبالتلي كنت بستخدم الـ 1 % بحذر" لم ينتبه لذلك كثيرًا، أراد الانغماس في التجربة حتى نهايتها، التعلم من كل لحظة يعيشها على الجزيرة.
تلك لحظات لا تعوض، عندما يحلّ المساء على الجزيرة، يترك "محمود" الكوخ، يتحرك بعيدًا ينام على الأرض شاخصًا بصره تجاه السماء، يتأمل كل شيء، الطبيعة، الحياة، أحلامه، الطرق التي اختارها، قيمة السفر الذي أتى به إلى تلك الجزيرة النائية "قربت أكتر من نَفسي، بقيت بسمع صوتي، القعدات دي خلتني عارف أنا عايز إيه في حياتي" أدرك أن الحياة تمضي بدون رفاهيات "وإن الواحد يقدر يستغنى عن حاجات كتيرة فاكر إنه صعب يعمل دا".
في ليلة الرحيل، انتاب الجميع مشاعر مختلطة "زعل على الوداع مع فرحة بالوقت اللي قضناها على الجزيرة" جمعته جلسة مع الفتاة البلجيكية والأسرة "اللي حسينا إنها عيلتنا" تحدث الجميع عن الأيام التي مضت، انطباع كلا منهما على الآخر الجزيرة "وطبعًا كان فيه عياط كتير، صعب أنسى أيامي هناك" يعتقد محمود أن تلك الجزيرة تركت آثرا بالغًا في قلبه، متمنيًا أن يعود إليها مرة أخرى "وأقضى وقت أطول بكتير من الأسبوعين".
تابع باقي موضوعات الملف:
"إفريقيا السعيدة".. "سارة" انتقلت إلى كينيا لمساعدة "الأطفال اللاجئين"
مغامرة في أوغندا.. أميرة تركت "كركبة" العاصمة من أجل الحياة البرية
"مياه آمنة".. حين توسّع مشروع مصري ليروي بلاد أفريقيا
"لفّة" في بلاد أفريقيا.. الحياة البرية تغير نظرة شاب عن القارة السمراء
57 يوما في قَلب إفريقيا.. كيف غيرت القارة السمراء حياة "مرام"؟
فيديو قد يعجبك: